رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أصحاب المهن المُحبة للبرد: «الرزق يحب الشتوية»

 المهن المُحبة للبرد
المهن المُحبة للبرد

الشتاء لا يحن على أحد، فهو فصل قاسٍ يشفق الإنسان فيه حتى على الحيوانات التى تسكن الشوارع، ورغم ذلك تعشقه فئات عُمّالية تمتهن مهنًا ذات طبيعة ساخنة، مثل الخبازين والدباغين وعمال المطاعم والأفران الصناعية، فينسجمون خلاله مع البرودة ويتخففون من ملابسهم دون قلق، بينما يرتدى الناس أغلب ما فى دواليبهم لتجنب الصقيع.
أصحاب هذه المهن لهم تجارب خاصة وفريدة من نوعها حول طريقة تعاطيهم مع فصل الشتاء، وتكيُّفهم على العمل خلاله، لدرجة أنهم يترقبون مجيئه كل عام بفارغ الصبر، ويعتبرونه فصل الرزق والعمل المثمر.


مصطفى «عامل مدبغة»: نرتدى قطعة ملابس واحدة خلال العمل.. والأبخرة توفر لنا الدفء

فى «مصبغة سلامة» بالدرب الأحمر، التى تحمل تاريخًا يمتد لـ١١٨ عامًا، يعمل ١٧ رجلًا من عائلة واحدة، فى اجتهاد منقطع النظير، وفى درجات حرارة عالية، حيث يتم فصل الألوان وصبغ الملابس والجلود باستخدام الماء الساخن.
وبين زحام الزبائن الذين ينتظرون تسلم بضاعتهم لدى المصبغة، التقينا «مصطفى»، أصغر عامل، الذى بدأ حديثه قائلًا: «ننتظر الشتاء حتى نستطيع أن نعمل فى راحة نفسية وجسدية، لأن كل الشغل يعتمد على المياه المغلية والبخار». يحكى «مصطفى»، ١٧ عامًا، عن طبيعة العمل والتكيف مع الفصول المختلفة: «فى الصيف نرتدى ملابس خفيفة جدًا، غالبا تيشيرت واحد، وهذا بسبب الحر الشديد، وفى الشتاء من الممكن ارتداء قطعة ملابس واحدة وقت العمل»، مضيفًا: «وقت الصيف ندعو الله أن ينتهى الفصل سريعًا، ونتمنى أن تكون السنة كلها شتاء علشان نشتغل مرتاحين».
ويصف مشهد زملائه وهم يعملون فى فصل الشتاء: «وقت البرودة يجتمعون حول قدر المياه المغلية، ليحصلوا على الدفء فى الليالى شديدة الصقيع، فهى ملاذهم الأخير لمواجهة البرد، وتوفر لهم الأبخرة الصادرة عن المصبغة القدر الكافى من الهواء الساخن».
ويشرح مراحل صنعة الدباغة: «تصل إلينا الخيوط كل يوم فى تمام الساعة السادسة والنصف صباحًا، فنبدأ العمل على صبغها باللون الأبيض فى أحواض خاصة، ثم تنقل إلى أحواض أخرى مليئة بالمياه المغلية المذابة فيها الألوان المختلفة، ويحصل كل خيط على لون خاص به، ثم تأتى مرحلة جديدة لتصفية الخيوط من المياه فى مصفاة عملاقة، وأخيرًا تنشر الخيوط بعد تصفيتها لتكون بذلك جاهزة للتسليم». ويودع «مصطفى» وزملاؤه الخيوط التى تم صبغها فى أماكن مخصصة للتخزين، ليتسلموا الدفعة الجديدة من الخيوط لتخوض نفس الرحلة، مختتمًا: «دورة العمل ثابتة، وبعد الانتهاء من حفظ وتكييس ما تم صبغه تأتى مرحلة تسليم البضاعة».

محمد «حاتى»: أشرب ماءً باردًا قبل ترك الشواية لتجنب الإصابة بـ«الإنفلونلزا»

محمد إبراهيم، «حاتى» فى مطعم بميدان الدقى، يجد متعته فى العمل وقت الشتاء، إذ لا يرتدى إلا قطعة واحدة من الملابس، بينما يقف الزبائن أمام المطعم ينتظرون وجباتهم وهم يرتدون طبقات من الملابس.
يعتبر «محمد»، ٢٦ عامًا، «الشواية» بمثابة درع تحميه من الصقيع، وله فلسفة فى ذلك يوضحها: «السخونة الصادرة منها تحافظ على درجة حرارة الجسم وتقيه لسعات الهواء البارد». ويحكى عن تجربته فى العمل: «أعمل منذ سنوات فى طهى الكباب، وتعلمت خلال هذه الفترة كيفية التأقلم مع السخونة، وتعلمت كيفية الوقاية منها، حتى لا أصاب بأى حروق من التعامل مع المعادن الساخنة وغيرها من الأدوات الخطيرة»، مضيفًا: «الشتاء بالطبع أفضل بالنسبة لى من الصيف، حيث درجات الحرارة الملتهبة».
ويواصل: «على مدار تجربتى أيقنت أن الشتاء هو الموسم الأفضل، إذ تكون حرارة الجو المحيطة أقل من النار التى أواجهها، وهنا يصبح الشواء ميزة، كما أعتبر فترة مناوبتى فى المطعم مميزة، لأننى أحرم من هذه التدفئة فى منزلى».
أما عن فصل الصيف فيعتبره «لعنته الأبدية، لأن الأتربة الناعمة الخارجة من حرق الفحم، من الممكن أن تتسبب له فى أزمات الربو، خاصة عند تفاعله مع الحرارة العالية ودخوله إلى الأنف». ويأخذ «محمد» بأسباب السلامة فى جميع الأحوال وفى كل الفصول على السواء: «أكسر الحرارة العالية بشرب ماء بارد قبل الانتقال بعيدًا عن الشواية، كى لا أصاب بنزلات البرد ويتضرر جهازى التنفسى».

خالد «صانع زجاج»: عملى يعتمد على النيران.. و«السقعة» تخفف «الصهد»

فى درجة حرارة تصل إلى ١٥٠٠ درجة مئوية، يبدأ خالد أحمد، صاحب ورشة تصنيع زجاج بمنطقة مقابر المماليك، العمل كل صباح، لتصنيع هذا المنتج بطريقة يدوية تعتمد فى الأساس على الأيدى العاملة لا الماكينات الحديثة.
يصف «خالد» طبيعة عمله بأنها شاقة ومجهدة للغاية فى فصل الصيف، خاصة عندما تمتزج حرارة الجو الآتية من الخارج مع الحرارة الشديدة فى الداخل، موضحًا «شغلنا يعتمد على النار بداية من تنقية وفرز الزجاج، ثم وضعه فى مياه ساخنة للتخلص من الأتربة والملصقات العالقة به».
ويضيف: «بعد ذلك نعمل على صهره داخل الأفران فى درجة حرارة عالية، وأخيرًا يأتى دور المسئول عن تشكيل الزجاج من خلال بعض الأدوات أهمها الماسورة التى ينفخ فيها ليشكل الزجاجات التى تستخدم فى تعبئة المياه الغازية أو العطور، أو ربما للزينة».
ويحكى أن العمل فى الورشة يعتمد على أسرته الصغيرة، التى ظلت تتوارث المهنة منذ أكثر من ٤٠ عامًا، وأصبحت مبدعة ومحترفة فيها، مؤكدًا «نعتمد على نحو ١٠ ألوان فى الصناعة، أهمها الأبيض، وهو لون الزجاج التقليدى دون أى إضافات، وكذلك الأخضر الذى يستخدم فى زجاجات المشروبات الغازية، ثم باقى الألوان التى تستخدم فى صنع زجاجات العطور، والبعض الآخر يستخدم فى تزيين النوافذ».
ومع هذه الحرارة الحارقة يتمنى «خالد» وأسرته أن يدوم الشتاء إلى الأبد، لأن مهنتهم تحتاج إلى برودة ما لتعادل الحرارة والسخونة الشديدة داخل الورشة، مضيفًا: «الكثير من العمال لا يتحملون الكم الهائل من العرق الذى يخرج من أجسادهم كل يوم». ويتمنى «خالد» أن يوسع مساحة ورشته التى تضم فرنًا وغرفتين لعرض المنتجات، حتى تتحول إلى مصنع كبير يصل بصناعة الزجاج إلى العالمية.



صابر «حداد»: البرودة تساعدنى فى تشكيل المعادن بشكل أسهل بعد الانصهار

الشتاء نعمة للحدادين».. هذا ما يؤمن به صابر رجب الذى يملك ورشة حدادة ورثها عن أبيه فى منطقة باب اللوق بوسط القاهرة، ويعمل فيها منذ أن كان فى العاشرة من عمره حتى أتم عامه الخمسين.
يوضح «صابر» هذه الميزة: «الشتاء موسم أكثر راحة وتخديمًا على عملى، لأن تشكيل المعادن بعد الانصهار يحدث بشكل أيسر خلال البرودة، وهذا يتيح ثنيها بشكل جيد ودقيق».
أما على المستوى البدنى فيقول: «هذا الفصل يمثل لى الطقس الأمثل لصحتى، لأننى أعانى من أمراض فى الكلى، وعندما أشرب المياه الباردة فى الصيف تصاب كليتاى بانقباضات شديدة قد تتسبب فى احتجازى فى المستشفى لفترة». ومع ذلك يذكر أن رزقه فى الشتاء يقل، لأن طلبيات العمل سواء فى تركيب الأبواب والنوافذ أو حتى المقاولات الكبيرة تكون بسيطة، لأن استعدادات الزواج غالبًا ما تكثر فى الصيف، ويؤكد أنه رغم مميزات الشتاء فإن عمله فى جميع المواسم شاق، نظرًا لتعرضه لحرارة الصهر الشديدة.

عصام «خبّاز»: أعمل أمام فرن حرارته 300 درجة.. السخونة «تُخمر» العجين سريعًا.. وأتمنى ابتعاد أبنائى عن مهنتى

قبل سنوات عديدة أتى عصام حمدى من بلدته بمحافظة بنى سويف إلى حى الدقى بالجيزة، يحمل فى رأسه خبرات متراكمة ورثها عن عائلته التى عمل أغلب أفرادها فى مخابز «العيش» التقليدية، ليعمل على عكسهم فى مخبز آلى أقيم فى «بدروم» أحد العقارات بالمنطقة.
تجربة طويلة خاضها «عصام»، ٤٥ عامًا، فى هذا المجال: «أعمل فى هذه المهنة منذ ٢٠ عامًا، ورثتها أبًا عن جد، وسخرت لها عمرى منذ أن قدمت من بنى سويف حيث تعيش أسرتى، وعائلتى السبب الرئيسى فى عشقى هذه المهنة».
ويتحدث «عصام» عن أن السمة المشتركة بينه وبين باقى العاملين معه داخل المخبز من عجانين ومساعدين، هى أنهم لا يرتدون إلا الملابس الخفيفة التى لا تتناسب مع الجو فى الخارج.
ويفسر ذلك بقوله: «هذا يساعدنا كثيرًا على التأقلم مع الحرارة العالية، لأننا نعمل نحو ١٢ ساعة يوميًا، لذلك نحن نفضل فصل الشتاء عن باقى المواسم وننتظره من العام للعام»، مضيفًا: «الفرن تصل درجة حرارته لـ٣٠٠ درجة طيلة اليوم، ولذلك نخفف ملابسنا دون قلق من البرودة فى الخارج».
ويقول: «الشتاء يتميز بطول ساعات الليل، وهو أمر مثالى لصناعة العجين، فالعجان الآلى المنتشر فى معظم المخابز حاليًا يعتمد فى أدائه بشكل كبير على الحرارة، فإن كانت عالية لا يجب وضع خمائر على العجين، وهو ما يفقده بعضًا من حلاوة مذاقه ويفقده التماسك».
ويواصل: «فى الصيف أوجه العاملين للإنجاز سريعًا، لأن حرارة الطقس بجانب السخونة الآتية من الفرن، تفسد العجين إن لم يُطه بشكل سريع، على عكس الشتاء، فهم يعجنون كميات كبيرة من بداية المناوبة تكفيهم للعمل باقى اليوم، ما يوفر الجهد والوقت».
والمميزات التى جعلت «عصام» يفضل الشتاء لا تنبع من فنيات العمل فقط، بل لأمور صحية يعانيها خلال الصيف: «رغم خبرتى الطويلة إلا أننى لا أزال أصاب باختناقات فى الصيف، نتيجة الرطوبة العالية والتواجد أسفل سطح الأرض، إضافة إلى التقرحات الجلدية التى تصيبنى بسبب العرق المستمر». ويتابع: «لكن فى الشتاء يكفينى ملبس قطنى خفيف ناعم على جسدى، ومع التعود أصبحت لا أصاب بأدوار الإنفلونزا فى الشتاء، وفى الغالب الأمراض الموسمية كلها أصبحت معاكسة لطبيعة جسمى وتأتينى فى غير مواعيدها».
لكن «عصام»، وعلى عكس تجربته تمامًا، لا يفضل أن يكمل أبناؤه مسيرة العمل فى هذه الصنعة بعده، وله نظرية فى ذلك: «بعد عشرين سنة عمل هزل بدنى كثيرًا بسبب الحرارة المستمرة داخل المخبز، وأريد لأبنائى أن يكونوا بعيدين عن القاهرة ويواصلوا تعليمهم بعيدًا عن هذه المهنة الصعبة».