رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما قبل الوفاة.. فيلم يرصد اللحظات الأخيرة فى حياة فيلسوف تحدى الموت

مقابر
مقابر

لسنوات عديدة ظل الفيلسوف الأمريكى الشهير هربرت فنجاريت يجادل الجميع ويفند المصطلحات الشائعة عن الموت، بحثًا عن أدلة تدحض وتهدم وتقلل من مشاعر الآخرين تجاه الرحيل عن الدنيا، وخوفهم الشديد من تلك اللحظة. المبدأ والأفكار التى عاش «فنجاريت» يدافع عنها طيلة حياته تحولت فجأة إلى النقيض تمامًا فى أواخر أيام عمره، وبالتحديد فى عام ٢٠١٨ عندما أجرت مجلة «ذا أتلانتيك» حوارًا معه اعترف فيه صراحة بأنه كان مخطئًا فى تصوره للموت ونظرته للحياة على أنها مثل «الجولة السياحية على الأرض».

كان الفيلسوف الأمريكى يرى عكس ما كان يعتقده غيره فى هذا الوقت، حيث كان السائد والمعروف عن الموت أنه كالفراق الطويل أو كالنوم، أما نظرة «فنجاريت» له فكانت: نهاية قصة وبداية قصة أخرى، لم يشعر يومًا بالخوف أو هكذا كان يدعى.
وفى عام ١٩٩٦ كتب الفيلسوف الأمريكى كتابًا بعنوان: «Death Philosophical Soundings»، قال فيه إن الخوف من وفاة أى إنسان أمر غير عقلانى، مضيفًا: «عندما تموت.. لا يوجد شىء.. لماذا يجب أن نخشى الغياب عن الوجود عندما لا نكون هناك؟».
وبعد أكثر من ٢٠ عامًا من صدور الكتاب- الذى أثار جدلًا واسعًا حينها- أدرك الفيلسوف أخيرًا أنه كان مخطئًا، وبدأ الموت يخيفه حين اقترب بشدة منه، ولم يستطع حتى التفكير فى أنه يرى نفسه يموت مثل الآخرين.
وكتب «نجاريت»، الذى درس الفلسفة فى جامعة كاليفورنيا لمدة ٤٠ عامًا، على نطاق واسع، عن الخداع الذاتى، وتساءل فى مرات عديدة عما إذا كان يخدع نفسه بوضع مفاهيم ذاتية عن الحياة والموت أم لا.
فى الفيلم الوثائقى القصير «أندرو ٩٧»، الذى تناولته مجلة «ذات أتلانتيك» بالتفنيد والبحث، قال أندرو هاس، حفيد «فنجاريت»: «حين يكون الموت قريبًا جدًا يُصبح الأمر مزعجًا، سواء إذا كان هناك سبب وجيه أم لا، فأنا أسأل نفسى كثيرًا: ما الهدف منه؟».
ماذا كان يقصد «أندرو» بتلك الكلمات؟ لقد تأثر كثيرًا بجده الفيلسوف وما كتبه عن الموت، وحين رأى جده فى آخر شهور حياته بدأت كل الأمور تتغير تمامًا فى نظره، علاقتهما كانت قوية جدًا، لكن الموت انتزع الرابط الوثيق بينهما الذى نما منذ الصغر، منذ أن كان «أندرو» طفلًا.
يرى «أندرو» أن جده كان من أكثر الرجال تفكيرًا على الإطلاق، فيقول عنه: لقد كان يحلل ويبحث عن كل شىء، ويخترع أيضًا القصص المسلية ويسجلها عن طريق الفيديو لإرسالها له فى صغره، مضيفًا: «كانت المسافة بين إقامتى ومنزله ٣٠٠ ميل تقريبًا، وكان يحرص على إرسال الفيديوهات لى لإدخال السرور على قلبى».
وأوضح أنه اختار اسم الفيلم الوثائقى «أندرو ٩٧» بعناية، فالجزء الأول من الاسم هو اسمه، بينما الجزء الثانى وهو الرقم فهو عمر جده، لافتًا إلى أن الفيلم مؤثر وإنسانى بشكل كبير، حيث يستكشف المشاعر الداخلية لمن يمرون بالشيخوخة وتقبلهم الذى لا مفر منه فكرة الموت.
يظهر «فنجاريت»- فى أحداث الفيلم الوثائقى- وهو على كرسى متحرك، ويقول: «من الصعب للغاية على الأشخاص الذين لم يبلغوا حالة الشيخوخة أن يفهموا نفسية ما يجرى الآن لشخص مثلى». وبهدوء شديد يرصد نجله بالكاميرا الأجواء المحيطة به، وكيف أوصلته الشيخوخة لكى يُصبح عاجزًا، وهو الذى تحدى الجميع فى صباه وشبابه حتى إنه تمرد على المألوف.
كان «فنجاريت» بحاجة إلى التصالح مع النفس أولًا، ثم طلب المساعدة من الآخرين، ويظهر مرة ثانية خلال أحداث الفيلم وهو يستمع إلى موسيقى محببة إليه، لأنها تذكره بزوجته الراحلة، ومن الواضح أنه كان متأثرًا وحزينًا على غيابها، واعترف بأن هناك ما يخيف فى غياب الأحبة.
يُضيف الحفيد لمسة على الأحداث فى الفيلم، فيقول معلقًا على مشهد جده الحزين: «من الصعب للغاية مشاهدة أى شخص يُعانى هذا النوع من الألم، وعدم القدرة على مواساته، الأمر يزداد صعوبة حين تحب هذا الشخص بشدة، وجدت نفسى جالسًا على بُعد أمتار قليلة منه، غير قادر على الوصول، لأن هناك كاميرا بيننا».
وتابع: «كل ما استطعت فعله هو وضع يدى على كتفه واحتضنته بشدة، أحببت أن أكون معه فى الألم، ثم أعطيته منديلًا ليمحو دموعه، وهنا انتهى المشهد فى الفيلم الوثائقى». فى ٢٠١٨، توفى «فنجاريت» تاركًا خلفه كمًّا ضخمًا من المعلومات المتضاربة التى آمن بها ثم أنكرها، وبعد وفاته صور «هاس» المقطع الأخير للفيلم الوثائقى، وقال فيه: «لقد كان جدى يحب الحديث دائمًا عن غموض الموت والشعور بالخوف منه، لذا كان من الضرورى نسج عمل يوضح كل هذه التفاصيل فى حياته وبعد وفاته، كنت أود تصديق أنه ربما رأى الآن على الأقل لمحة عن الموت الذى ظل طوال حياته يفكر فيه».