رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«السمان والخريف».. نجيب محفوظ يحكى قصة العصر البائد

السمان والخريف
السمان والخريف

خرج عيسى من التحقيق الذى دام ساعات كشمعة لم يبق منها إلا عقب فتيلة، إنه الصعود المفاجئ إلى السماء ثم الارتطام بالأرض، أطاحت الثورة بكل أحلامه وصار من رجال النظام البائد رغم أن حزبه لم يكن مؤيدًا للملك.

ساقته قدماه إلى خطيبته "سلوى" إلا أن والدها على بك سليمان رغب فى إنهاء هذه الخطبة لأن عيسى الدباغ أضحى اليوم ماضيًا بلا مستقبل.

كان الفراغ هو سيد الموقف والحانات هى الملاذ الأول والأخير ولم يتبق لعيسى سوى معاش لا يكفى رفع قامته لعام واحد، رفض خدمات ابن عمه حسن الدباغ الذى كان مهمشًا فى العهد البائد وصار الآن من كبار رجالات الدولة.

كان عناد عيسى أكبر من عمره بل ومن حاجته بكثير، ذهب إلى الإسكندرية لكى يرمى همومه بين أمواج البحر المتلاطمة هناك التقى «ريرى» إحدى بنات الليل التى تتسول اللقمة والسيجارة والجنس أيضًا، عاشت معه تلك الفترة التى قضاها فى الإسكندرية والتى دامت لأسابيع قليلة أخبرته فى نهايتها أنها حامل فمًا كان منه إلا أن طردها من بيته وعاد إلى القاهرة حين علم بوفاة والدته ثم قرر بيع البيت الذى كانت تسكنه.

جاءت لتشتريه قدرية هانم ووالدتها، كانت قدرية بدينة وسبق لها الزواج ثلاث مرات لكن لاشئ مؤلم بالنسبة لعيسى الدباغ فلقد تساوت أمامه كل الأشياء.لقد عاش داخل نفسه لا يهمه إن سبق أو لم يسبق لها الزواج ولم يهتز حين علم بأنها عقيمة باختصار تزوجها من أجل مالها لا رغبة لديه فى العمل كره كل شىء ولم يغيره إلا العدوان الثلاثى الذى جعله يحب الثورة لكنه كان تغييرًا سطحيًا فسرعان ما لفظ الثورة وعاد إلى تقوقعه داخل ذاته، كره حياته المملة خاصة بعد علمه أن حسن ابن عمه تزوج من سلوى.

كانت الحياة كل يوم توصد أبوابها أمامه وليس هناك منفذ لشعاع أو نسمة هواء مرت خمسة أعوام ثقيلة محملة بخلافات مع حياته وزوجته البدينة فعاد إلى الإسكندرية فرأى ريرى، أصر على مخاطبتها لكنها أصرت على الرفض ومازاد من إصراره أنها تحمل طفلة لها نفس ملامحه، لكن دون جدوى تركته وانصرفت، نادى على أحد ماسحى الأحذية واستدل منه على أن «نعمات» بنت ريرى تبناها صاحب المقهى بعد أن تزوج ريرى ليسترها.

حاول كثيرًا لم الشمل لكنه فشل، ركض مذهولًا إلى تمثال سعد زغلول ليجد شابًا قد اعتقله قديمًا ليخبره بأن الحياة مازالت بها أنفاس، ليهز رأسه بإمعان ليلحق بالشاب الذى رمى الكلمات وانصرف أو ليلحق بأنفاس الحياة.

كاد أن يتبدد حلمه الأخير حاول العيش داخل الماضى وطرح نفسه على الشازلونج ليستريح من عذابات الأيام الجارحة. ها هى نعمات من بعيد تلعب بكرة صغيره تلقيها بيديها النحيلتين إنها تشبهه تمامًا وتشبه شقيقاته.. عينا عيسى تروح وتجىء مع كرة نعمات وكأنها تعيش الحيرة نفسها التى ترسل الكرة يمينًا وشمالا بداخله دوافع كثيرة كلها متناقضة.. هل يذهب إليها ليحتضنها بالرغم من نظرات ريرى الغاضبة أم يسكن ويسكت ويلتزم الصمت خوفًا من الفضيحة؟.لم يقدر على الصمت وجرى نحوها بسرعة وضمها إلى صدره ضمة الأب الحنون وطبع على خدها قبلة تقول للعالم إنه يعيش ويتنفس وإنها ابنته وكل حياته الآتية.
تمت