رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الوداع» بنكهة صينية




من منتهى الخصوصية أدان صناع فيلم «الوداع» الصينى- الذى ودع عام ٢٠١٩- ثقافة العولمة ونمط الحيوات الآلية الجافة السريعة اللاهثة ليستشرف عامًا جديدًا ينتصر أكثر للحياة المفعمة بالحياة لا بمجرد البقاء على قيدها.. لقد عاش أبطال العمل فى فيلم «الوداع» فى مسقط رأسهم حياة حقيقية افتقدوها وافتقروا إليها دون أن ينتبهوا لذلك.
إنه عمل فنى متكامل صوره وأنتجه وغزله لنا صناع السينما الصينيون، فخرج لنا وعلينا على شكل معزوفة فنية عذبة رقيقة ومتجانسة تلامسنا وتمسنا برأفة ولا تعصف بنا بغلو.. فسيفساء من الرقة والمشاعر أنتجت نسيجًا ومزيجًا متجانسًا احتوى فى طياته على الكثير من المتع البصرية بل والسمعية، فكان وقعه على الروح والقلب كوقع الموسيقى الناعمة التى تشعر وأنت تستمع إليها كأنك تسبح فى سحابة وردية ويذوب فى روحك ثلج أبيض يثلج صدرك ويتذوق لسانك طعم غزل البنات الوردى.
فشريط الصوت فى فيلم «الوداع» الصينى، الذى صاحب واحتضن المشاهد والكادرات فى كل ثانية، كان بطلًا من أبطال العمل وحلق بنا بعيدًا.. بل إلى أبعد مدى وفى نفس الوقت قربنا من مشاهد العمل وأبطاله.
شريط صوت من فرط عذوبته يشعرك بأنك تستمع لوقع خرير المياه المتدفقة بانسيابية ودفء يذيب روحك حتمًا وكأنك أذبت فيها شعيرات من غزل البنات وردى اللون، شريط سينمائى متكامل العناصر يغنى الروح ويثريها بتفاصيل إنسانية حميمية صادقة غزلت وسيقت حتمًا بحب حقيقى لفن السينما واحترام وإيمان حقيقى أيضًا بخصوصية المكان وثرائه وعمقه الثقافى المتراكم رغم مشاهد الفقر والتلوث ومعاناة الصينيين فى بلادهم. فالأصالة الكائنة بين جنبات وطيات المكان، تلك الأصالة غير المفتعلة أو المقحمة على السياق، لأنك تستشعرها وتلمسها فى كل ركن من أركان البيوت والشوارع والشخوص، بعد أن صمد المكان والإنسان أمام تيارات الحياة القاسية المميكنة بتوحشها وجفافها وخلوها من الروح. فيلم «الوداع» لا ينتصر للخرافة على العلم، لكنه يعلى من شأن الروح وقدرة الفرد على الصمود والتحدى بالإرادة والعزيمة والإصرار والتفاؤل. فالجدة المسنة والقوية فى الفيلم، والتى اعتزلت النضال منذ وقت انتهاء الحرب، لم تعتزل الحياة، بل تشبثت بها حتى الرمق الأخير، وأضفت من نفسها وروحها على تلك الحياة، وصدرت طاقة إيجابية وقوة ما غير مرئيّة انتقلت ومست كل ما حولها ومن حولها. تلك المرأة القيادية القوية الشامخة شديدة الحنو، والتى تستطيع التخطيط دومًا وكأنها تقود جيشًا جرارًا، استطاعت لم شمل أبنائها وأحفادها من الشتات، كلهم جاءوا إليها يهرولون فزعين عندما علموا بشأن إصابتها بالسرطان، وأنه فى مراحله الأخيرة. ارتبك الجميع.. الأبناء والأحفاد قرروا وخططوا لتنظيم حفل زفاف صورى لحفيدها كتكأة تجعلهم جميعًا يرجعون لبلادهم دون أن ترتاب الجدة فى سلوكهم ومجيئهم للديار هكذا وبشكل مفاجئ، وهى تعلم أن لكل حياته المتخمة والمزدحمة فى المهجر.
فالابن الأكبر ترك البلاد وعاش فى أمريكا وصار مواطنًا أمريكيًا تطبع بطباع الغرب الأمريكى، والشقيق الأصغر هاجر لليابان وتشتتت الأسرة واتسعت جغرافيًا، وصار للكل حيواته ونظامه المعيشى الصارم الذى يدور فيه فى دوائر مغلقة ولا سبيل فيه لالتقاط الأنفاس أو الفكاك من روتينه القاسى، فى حين بقيت تلك الجدة القائد فى ديارها ولم تستطع مغادرتها. ففيها كل ما تملك وكل ما تريد وعندما أتى وعاد إليها وإلى الديار هؤلاء المهاجرون، ظنًا منهم أنها فى حاجة إليهم وإلى عونهم، فكانت الجدة هى المرفأ والملاذ والعون والسند للجميع. هم المشتتون الضائعون والضعاف وتتوق أرواحهم للاستقرار بعد اللهاث الطويل فى بلاد المهجر والاغتراب، فكانوا هم حقًا المحتاجين لها لا العكس. عودة الأبناء للديار كانت بمثابة الإفاقة وليست فقط العودة للجذور ولم الشمل، بل ولم شتات الأنفس فى رحاب التنوع وخصوصيته وثرائه والأجواء المفعمة بالعيش الحقيقى وكل مسببات السعادة والمتع البصرية والحسية. فالطعام الذى يطهى فى البيوت بالطرق التقليدية أفضل وأسعد حالًا من الوجبات الجاهزة المجمدة. تجمع الأسرة على طاولة واحدة والتقاء الفرقاء معًا فى بيت واحد، يتوحد الجميع من أجل هدف مشترك وهو الرغبة فى مد أيادى العون للجدة والتخفيف عنها ومواساتها والاهتمام بصحتها... إلخ من التفاصيل التى فكروا فيها وخططوا لها وحسبوا لها الحسابات، وكانوا فى حيرة بشأن ضرورة إخطارها بطبيعة مرضها وحالتها ووضعها الصحى. ففى أمريكا والدول الغربية لا بد من إخطار المريض بمرضه ومراحله وتطوره. فى حين آثرت شقيقتها وولدها الأصغر الذى يعيش فى اليابان إخفاء المرض عنها.. حتى طبيبها المعالج نصح بذلك قائلًا إن المرضى بالسرطان يموتون خوفًا منه، فالسرطان لا يميتهم لكن الخوف منه والخوف من الموت هو ما يميتهم، وقاومت الجدة وانتصرت تلك العجوز- ذات الروح المفعمة بالأمل، وصاحبة التاريخ النضالى الملىء بالكثير- على المرض وقهرت الخوف والموت بإرادتها وحبها وتشبثها بالحياة. قصة الفيلم مستلهمة ومستوحاة من قصة حقيقية ألهمت صناع العمل، بعد أن بقيت تلك الجدة المسنة على قيد الحياة دون تعاطيها أى دواء طوال ست سنوات عاشتها فى أتم صحة وأسعد حال حتى بعد تشخيص المرض، وأنها فى مراحلها المتأخرة منه، وقال الأطباء إنها ستموت بعد ٦ أشهر على أقصى تقدير وعاشت الجدة ست سنوات وهى تتمتع بموفور الصحة والعافية وتحتفل كل يوم بالحياة.
فيلم «الوداع» عمل إنسانى عذب استطاع الوصول للمتلقى بسلاسة وبساطة تشع نورًا وبهجة وتمنح الطاقة الإيجابية للمتلقين حتمًا، فيخرج منه المشاهد بابتسامة حانية دافئة هادئة تعتلى شفتيه ووجهه، وطاقة متجددة وروح عالية وذهن صافٍ تمامًا كما أخرجت الجدة أبناءها من حالة الارتباك والقلق والشحن النفسى لحالة السلام والنوستالجيا، التى عايشوها بعد التقائهم أمهم- مصدر الطاقة المتجددة - بل ومصدر القوة والأمان الذى أعاد لهم ذاكرتهم وذكرياتهم وكل ما ألفوه فى ديارهم من دفء اللقاءات العائلية الحميمة التى حرموا منها طويلًا.. تلك اللقاءات التى تقرب ولا تباعد، تقرب الفرد فى هذا العالم الآلى القاسى من نفسه ومن ذاته، ليشعر حقًا بها وبمن حوله ويدع القلق الوجودى الموتر ويودعه ليبدأ الحياة.