رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السهو والخطأ.. وخبراء المصاطب!


أن تغيب عنك بديهيات فى المجال الذى تزعم أنك متخصص أو خبير فيه، فهذا يعنى أنك إما نصاب، أو «فشار» أو أعور يستغل عميانًا. وحين تستضيفك وسائل إعلام بهذه الصفة، فهذا يعنى أن فيها جهلاء أو بلهاء أو يتقاضون مقابل ذلك. كما يعنى، أيضًا، أننا انتقلنا من مرحلة «الجهل النشيط»، التى تحدث عنها يوسف إدريس، إلى زمن الجهل البجح أو المتبجح.

شخص اسمه هانى توفيق، تقول بيانات حسابه على «فيسبوك» إنه درس الاقتصاد ‏‎Econonmics‎‏ فى ‏جامعة كاليفورنيا، ‏وتستضيفه البرامج التليفزيونية مسبوقًا بصفة «الخبير الاقتصادى»، التى تنفيها تمامًا تدوينة كتبها، منذ أيام، تضمنت الآتى: «كنت قد قررت الابتعاد عن الكتابة فى الاقتصاد مؤقتًا، ليس لأن السياسة قد قفزت فى الأولوية والأهمية للمكان الأول فقط، ولكن لأن كل ما لدى قد قلته ولم يعد لدىّ جديد أضيفه. ولكنى كنت استعرض بيانات البنك المركزى المنشورة عن الربع الأول من العام المالى الحالى عن ميزان المدفوعات، وهو الميزان الذى يظهر كافة التدفقات النقدية الواردة والمنصرفة بالعملات الأجنبية، فراعنى فى هذه البيانات وجود بند اسمه (السهو والخطأ)، وبلغت قيمته فى ثلاثة أشهر فقط ٩٥٢ مليون دولار».

راع، يرع، رَيْعًا ورَيَعانًا، ويُقال رَاعَ الولد أى فَزِعَ أو خَافَ. وعليه، قام المذكور بوضع صورة من «البيان الصحفى» بشأن أداء ميزان المدفوعات خلال الربع الأول من السنة المالية، الذى تضمن بند «صافى السهو والخطأ»، معتقدًا أنها وثيقة تثبت حالة التلبس. وما زاد الطين بللا، هو أن المذكور زعم أنه سأل «العديد من الخبراء والمتخصصين فى البيانات القومية» فلم يتلق ردًا بالمرة من البعض، وتلقى ردودًا غير مقنعة من البعض الآخر.

وبجرأة نحسده عليها نصح «السادة معدى هذا التقرير بالتالى: إما أن تبحثوا عن تفاصيل هذا المبلغ وتحصروه بالمليم، أو تشوفوا مين العكروت ده اللى (سُهى) عليه أو أخطأ فى مثل هذا المبلغ الجبار وتحاكموه».

قطعًا، سيضرب الاقتصاديون، المبتدئون قبل الخبراء، كفًا بكف، لو قرأوا هذا الكلام. وسيضربون رءوسهم «فى الحيط»، لو طالعوا تعليقات أصدقاء ومتابعى المذكور: «مش ممكن تكون مجموعة سرقات حصلت ومش عارفين يغطوا العجز ده فاتحطت فى بند السهو والخطأ؟».. «بالضبط زى بضاعة أتلفها الهوى».. «والله كارثة بمعنى الكلمة واعتقد أحد أسبابها إنهم مش بيقروا أو حتى يسمعوا آراء خبراء مثلك».. و... و... توالت التعليقات، التى أثبتت، مجددًا، أن الطيور على أشكالها تقع!

معروف وبديهى أن بيانات البنك المركزى يتم تجميعها من مؤسسات أو جهات مختلفة. ولأن بعض تلك البيانات لا يكون متاحًا، وقت إصدار بيان ميزان المدفوعات، وبسبب عدم الانتهاء من تدقيق بعضها الآخر، أو لعدم القدرة على تقدير قيمة بعض البنود، طبيعى أن تكون هناك فجوة بين الوارد والمُنصرف، أو بين التدفقات والمخرجات، اتفق المصرفيون القدماء، المصريون والأجانب، على سدها، مؤقتًا، باختراع بند «السهو والخطأ»، ليضعوا فيه القيمة المحتملة للبيانات الناقصة، أو غير المتاحة، وقيمة البنود الجارى تدقيقها أو تلك التى يصعب تقديرها.

هذا المعلومة البديهية، يعرفها كل مراجعى الحسابات وكل المعنيين أو المهتمين بالاقتصاد فى شرق العالم وغربه، بل يعرفها أيضًا أى مثقف أو متابع «على قدّه». ومع ذلك، احتاج المذكور إلى أربعة أيام حتى يكتب الآتى: «بمراجعة أدبيات احتساب موازين المدفوعات فى العالم كله، اتضح أن بند السهو والخطأ (مازلت معترضًا على الاسم)، يمثل المتمم الحسابى بين مجموع الميزانين الجارى والرأسمالى من جهة، والميزان المالى من جهة أخرى». و... و... وأنهى التدوينة بأن «الموضوع متخصص شوية، ولكن لزم التنويه والاعتذار».

تقديرنا للتنويه أو الاعتذار، لا ينفى أن شخصًا يُوصف بأنه «خبير اقتصادى»، راعه، أى أخافه أو أفزعه، وجود بند اسمه «السهو والخطأ» فى بيانات البنك المركزى، ثم قرر الآن، الآن فقط، أن يعترض على الاسم. ما يقطع بأنه لم يقرأ، طوال عمره المديد، أى بيانات للبنك المركزى المصرى بشأن أداء ميزان المدفوعات، التى تصدر أربع مرات سنويًا، ولم يطلع على أى بيانات صادرة عن أى بنك مركزى فى العالم بهذا الشأن، لأنه لو كان قد فعل، لوجدها كلها تتضمن هذا البند: بند «السهو والخطأ» أو Net errors and omissions، كما أنه لو قرأ أى تقارير صادرة عن مؤسسات مالية أو اقتصادية، تناقش أو تحلل تلك البيانات، لوجدها أيضًا تتناول هذا البند.

أخيرًا، وبناء على ما تقدّم، هل يمكن أن يوصف هذا الشخص بأنه «خبير اقتصادى»، وأن يفتى كما يحلو له، إلّا على مصاطب، كبير الجالسين عليها حاصل على «دبلون» تجارة؟!.