رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسالة إلى السيد المسيح فى عيد مولده


سيدى المسيح عيسى بن مريم البتول العذراء، لا أعرف كيف أبدأ رسالتى لك وأنا أحتفل بعيد مولدك، فمشاعر الإنسان المفعمة بالحب قد تعطل فكرته، ومشاعر الإنسان المضمخة بالأسى قد تقصف قلمه، وما بين الحب والأسى أكتب لك رسالتى، ولكن عفوًا يا سيدى، هل يجوز لى أن أكتب لك وأنا رجل تدنس بالخطايا كما يتدنس كل البشر فى حين أنك لم تقترب منك خطيئة وصَعَدَت إلى الله وأنت طاهر مطهر؟، فهل يجوز للأدنى أن يخاطب الأعلى؟! واعذرنى أننى وضعت نفسى فى مقارنة معك وقلت عن نفسى الأدنى وأنت الأعلى، ذلك أنه لا يجوز لأحد أن يضع نفسه فى موضع مقارنة معك، أنا يا سيدى لا شىء على الإطلاق وأنت رسالة الله لأهل الأرض، وبهذه المناسبة أود أن أحكى لك عن حوار دار بينى وبين بعض الأصدقاء، إذ قالوا لى: لا يوجد إنجيل للمسيح، أين هو ذلك الإنجيل؟ فقلت لهم: تقصدون الإنجيل أى رسالته؟ قالوا: نعم فكل رسول له رسالة ألا تعلم ذلك؟! فقلت لهم: أعلم ولكنكم لا تعلمون، المسيح هو الرسالة، المسيح هو الإنجيل، الله أنزل على الرسل- عليهم السلام- رسالات مثل صحف إبراهيم والتوراة والزبور والقرآن، فكانت رسالاته للرسل كتبًا، أما عن المسيح فقد كان هو بذاته الرسالة، ولذلك كل كلامه وأفعاله آيات من الله للناس، لم ينطق إلا بما علمه الله إياه، ولم تكن له طينية تدفعه إلى الهوى، ولكن نورانية ترفعه إلى السماء فى كل الأحيان.
أريد أن أقول لك يا سيدى إنهم سخروا منى عندما قلت لهم ذلك، وقالوا لى ما دليلك على أن المسيح هو الإنجيل؟ فقلت لهم: القرآن هو دليلى، فالله قال فى القرآن «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ» لم يقل هنا إنه أوحى له بالإنجيل، ولكن علَّمه الكتاب والحكمة والإنجيل، فالتعليم هنا كان «لدنى» من لدن الله إليه مباشرة دون وسيط ولا وحى، ولم يرد فى القرآن على الإطلاق أى آية عن أن الله أوحى له بالإنجيل، لأنه هو المسيح عيسى بن مريم الإنجيل، الله قال فقط «وآتيناه الإنجيل» والإتيان هنا كان عن طريق التعليم المباشر، فقالوا: ولكن الله قال فى آية من القرآن إنه أوحى للأنبياء جميعًا بمن فيهم عيسى، فقلت لهم: لم أقل لكم إن الله لم يوح للمسيح، ولكنه أوحى إليه كما أوحى لموسى «وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك» وغيرها من الآيات التى تدل على أن الوحى كان للتأييد والطمأنينة، أما رسالة المسيح فكانت فيه هو شخصيًا.
وما زلت أحفظ يا سيدى عن ظهر قلب قول الله لك مباشرة فى القرآن وهو يخاطبك «وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل»، فأنت يا سيدى تلقيت الإنجيل تعليمًا وليس وحيًا، وكذلك قال الله عن العبد الصالح، الذى التقاه موسى عليه السلام «وجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلَّمناه من لدنا علمًا» فكان هذا العبد يحمل علمًا من لدن الله، وكذلك سيدنا يعقوب، الذى قال الله عنه «وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون»، فكان ما عند يعقوب هو علم من عند الله، وكذلك قال عن داوود «وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم» وسيدنا آدم «وعلَّم آدم الأسماء كلها» والملائكة التى قالت «سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا»، هذه هى مواضع التعليم الإلهى فى القرآن، لذلك كنت أنت بنفسك الإنجيل، لأنك أنت البشارة، والإنجيل فى اللغة اليونانية الأصلية هو البشارة.
أما ما كتبه الحواريون فهو تسجيل لأقوالك ومواقفك، وبذلك يتحول الإنجيل الحى إلى إنجيل ورقى مكتوب ينطق برسالة الله للناس، هذا هو ما فهمته، وقد أكون قد أصبت أو أخطأت، ولكن عذرى فى خطأى هو أننى أحببتك فرأيتك صورة صافية جلية لم تشبها شائبة، فسامحنى على ما كتبت.
والآن أريد أن أشرح لك حال دنيانا الآن، أكتب لك يا سيدى وأنا مطأطئ الرأس من الخجل الذى يتملكنى من أفعال البشر على اختلاف أديانهم، كلنا الآن فى حالة قتال مستمر يا سيدى، نقتل ونسرق ونرتكب من الجرائم ما قد يخجل منها إبليس نفسه، لأننا يا سيدى نسفك الدماء باسم الله، وحين أقرأ رسالتك الإنجيلية المسطورة أجدك تقول: «طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون» وفى دنيانا الآن من يقتل البشر ليسرق مالهم وهو يقول إنما أفعل ذلك سعيًا منى للسلام!! يرسل جنوده ويحتل الدول ليسرق البترول وآبار الغاز وهو يرفع بيده القرآن الكريم، أو الإنجيل أو التوراة، ويتفق أصحاب الصليب المزيف مع أصحاب الهلال المزور، ومعهم أصحاب نجمة داوود، ليقتسموا ما يضعه الشيطان فى جحورهم، ولكن على حساب سلامنا وأمننا وأرواحنا.
وحينما أقرأ قولك فى إنجيل متى المسطور: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ لأَنَّ كُلَّ الَّذينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» نعم من قَتَل يُقْتل ولو بعد حين يا سيدى، ولكن أحدًا لا يعتبر، وأظنهم جميعًا قرأوا تلك الآية، ولكنهم مروا عليها وابتسامة ساخرة تكاد تخرج من وجوههم، البشر يا سيدى مارسوا القتل بأبشع صوره حتى إن القرن العشرين شهد مصرع أكثر من ٢٠٠ مليون إنسان فى الحروب والصراعات والتطهير العرقى والإبادة الجماعية، مع أن ترنيمة وجودك فى الكون التى يعرفونها ويترنمون بها ثم يغادرونها لأسلحتهم هى: «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وفى الناس المسرة» ترنيمة وجودك يا سيدى هى ترنيمة سلام، ولكننى نظرت إلى واقعنا القريب، إذ لم أستطع أن أصل بنظرى إلى أبعد من ذلك، فوجدت العثمانيين يقتلون أكثر من مليون ونصف المليون من الأرمن المسالمين، أقيمت لهم المجازر حتى إن الدماء كانت تجرى كالأنهار، ومن بقى على قيد الحياة تم ترحيله قسريًا، ومات أثناء الترحيل الآلاف، أنا الآن يا سيدى أبحث عن رجال الدين فى كل مكان حتى يقولوا لتركيا التى أبادت الأرمن: «إن الخشبة فى أعينكم» وإن السيف هو دينكم.
ولكنها ليست تركيا فقط يا سيدى التى الخشبة فى عينيها، لو نظرنا حولنا لوجدنا روسيا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا وغيرها ممن لا يمكن حصرها، وحينما نظرت إلى أمريكا وهى تؤسس دولتها رأيت كتاب التاريخ يقول «هنا يرقد جثمان الهنود الحمر حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإبادة ملايين الهنود الحمر وهم أهل أمريكا الأصليون، وقد قامت الحكومة الأمريكية بإصدار قرار بتقديم مكافأة مجزية مقدارها مائة جنيه مقابل كل فروة مسلوخة من رأس كل هندى أحمر، ثم أصدرت بعد ذلك قانونًا بطرد الهنود من مستوطناتهم إلى غرب أمريكا وذلك لإعطاء أراضيهم للمهاجرين الأوروبيين، عرفت هذه الرحلة تاريخيًا برحلة الدموع، وبذلك تم فناء السكان الأصليين فى القارة الأمريكية».
ثم قرأت شاهدًا لقبر كُتِب عليه «هنا قبر المواطن اليابانى الذى بطشت به يد الأمريكان البشعة الدموية، ففى ليلة من ليالى الحرب العالمية الثانية قامت الطائرات الأمريكية بإلقاء قنبلتين نوويتين فوق مدينتى هيروشيما ونجازاكى، مما أدى إلى موت وتشويه الملايين، وقال بعدها الرئيس الأمريكى هارى ترومان، وهو يشرب قدح القهوة المغموس فى دماء الأطفال: «العالم الآن فى متناول أيدينا»، وقد أعجز يا سيدى عن أن أحكى لك المذابح والإبادة للفيتناميين والصينيين والكمبوديين، وقد سببت حرب فيتنام وحدها مقتل ما يقترب من نصف مليون فيتنامى ونُزعت أحشاء الآلاف من البشر منهم وهم أحياء، وأحرق الآلاف حتى الموت.
اعذرنى يا سيدى فلن أستطيع استكمال الرسالة فما فعله البشر أكثر مما يتخيله أحد، ويا أسفى على جماعات التأسلم الإرهابية الذين قتلوا الآلاف وهم يضعون أيديهم فى يد إبليس، أنا يا سيدى أرى أن العار يكللنا جميعًا لا أقصد العار الذى نال القتلة، لأنهم هم العار نفسه، ولكن أقصد العار الذى يكلل كل محب للسلام فى العالم، إذ إنهم فى عجزهم لا يستطيعون تطبيق تعاليمك، ولا نشر رسالة السلام التى نزلت من أجلها، ولا الحب الذى علمتنا إياه، واعذرنى يا سيدى أنا الآخر، فأنا أكثر الناس عجزًا ولم أملك إلا أن أكتب لك تلك الرسالة، كان من المفترض أن تكون رسالة بهجة ولكننى لم أجد فى كوننا بهجة لأخبرك بها.