رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأزمة الليبية واشتعال لهيب «حرب الغاز»


قلناها مرارًا ونكررها، كل صدامات المنطقة وتنافسات القوى العظمى وأطماع القوى الإقليمية، تحركها «حرب الغاز».. اكتشافات شرق المتوسط بقدر ما كانت مصدرًا لإيرادات يمكن أن تغير أحوال البشر وتيسر معيشتهم، بقدر ما عرضتهم للهيب حرب ضروس.. مصر فى قلب الأزمة، استعدت لها جيدًا، لكن دخان الحرائق المشتعلة حولها ولهيب الأزمات وطبول الحرب انعكس على وجوه البشر، القلق أضحى سمة موحدة، نفس التساؤلات على ألسنة الجميع.. تفكيك عناصر الأزمة قد يساعد على تفهم أبعادها، وهى أفضل الطرق لحشد وطنى فى دولة تواجه تحديات جسامًا.. تركيا هى الدولة الإقليمية الطامعة المحركة للأزمة، أمريكا وروسيا القوتان العظميان القادرتان على تحريك الأحداث، ودول الإقليم تواجه التحدى، وقد تتورط فى الحرب.. نتعرض هنا للإطار الدولى المحرك للأزمة.
التحدى الأمريكى
الخارجية الأمريكية قلقة من تصعيد الأزمة الليبية، والتدخلات الخارجية فيها، مسئول وصف مذكرة التفاهم بين تركيا والسراج بأنها «غير مفيدة واستفزازية»، وانتقد استعانة الجيش الوطنى بعناصر شركات الأمن الروسية.. أمريكا اعترفت بالسراج وأمدته بعناصر دعم للاستطلاع والتدريب من القيادة العسكرية بإفريقيا «أفريكوم»، تمركزت فى طرابلس.. ولكن بعد تقدم الجيش بداية هجومه على طرابلس أبريل الماضى، سحبت «أفريكوم» عناصرها، واتصل ترامب بحفتر يتحسس دوره فى مستقبل ليبيا.. عندما تعثر الهجوم عاد الرهان الأمريكى على السراج، وتم دفع عناصر «أفريكوم» من جديد ولكن إلى مصراتة.. تردد يعكس غياب الرؤية وفقدان الاستراتيجية ولهاثًا وراء الأحداث، يتناقض تمامًا وقدراتها كقوة عظمى.. لكن المبرر أن اهتمامها ينصب على «حرب الغاز».
ففى خضم المواجهات المتعلقة بليبيا، عزز ترامب «٢٠ ديسمبر الجارى» معركته ضد تصدير الغاز الروسى لأوروبا، بفرض عقوبات على الشركات المساهمة فى بناء خط أنابيب غاز السيل الشمالى «نورد ستريم ٢»، بتكلفة عشرة مليارات يورو، تمول نصفها «غاز بروم» الروسية، وتوفر الشركات الأوروبية النصف الآخر.. الخط يمر تحت بحر البلطيق، يلتف حول أوكرانيا مخترقًا الأراضى الألمانية، يضاعف صادرات الغاز الروسى لأوروبا الغربية، مما يزيد اعتمادها عليه، وهو ما ترفضه واشنطن، لأنه يعزز ارتباط أوروبا بالسياسة الروسية، ويوفر لموسكو إمكانية الضغط على الغرب وقت الضرورة، كما حدث إبان الأزمة الأوكرانية.
أمريكا تأمل أن يكون غازها الصخرى المسال بديلًا للغاز الطبيعى الروسى، لكنها تقدر أن ارتفاع تكلفة استخراجه وإسالته ليكون صالحًا للشحن، ثم إعادته للحالة الغازية قبل استهلاكه، يفقده القدرة التنافسية مع الغاز الروسى، الذى يصل أوروبا فى حالة غازية وبسعر رخيص، لذلك تتحمس أمريكا لمشاريع نقل غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، وعلى رأسها خط «إيست ميد»، ليكون بديلًا للغاز الروسى.. المصالح الأمريكية تفرض كذلك معارضة ما تثيره تركيا من إشكاليات، قد تهدد باحتكاكات مسلحة، تؤثر على عمليات إنتاج الغاز وتصديره، وتمس مصالح الشركات الأمريكية العملاقة العاملة بالمنطقة «نوبل إنيرجى وإكسون موبيل».. إذن هناك معركة غاز محتدمة فى شمال أوروبا، ترتبط مباشرة بمعركة أخرى مستعرة فى شرق وجنوب المتوسط.
روسيا وتركيا فى المواجهة
روسيا تحتفظ بعلاقات متوازنة مع جميع القوى السياسية الفاعلة فى ليبيا، لديها علاقات رسمية مع السراج، وتركت لحفتر حرية التعاقد مع شركات الأمن الروسية الخاصة، باعتبارها آلية الدعم غير الرسمى، التى أثبتت فاعليتها فى سوريا وأوكرانيا، كما تحتفظ بعلاقات مع ممثلى مصراتة وسيف الإسلام القذافى.. وعلى الصعيد الإقليمى فهى على علاقة تحالف بتركيا، وعلاقات ود مع قطر، وهما الطرفان المؤيدان للسراج، كما ترتبط بعلاقات وثيقة مع مصر والإمارات والسعودية المؤيدة للجيش الوطنى، لذلك فإن موسكو هى أقرب الأطراف لتأدية دور الوسيط المؤهل لتسوية الأزمة.
الحسابات التركية ارتكزت على توقع التأييد الروسى لسياستها فى ليبيا، استنادًا إلى تحالفهما المعلن فى الحرب السورية، إلا أن روسيا تحفظت على اتفاقها مع السراج، وذكرتها بالقرارات الدولية المتعلقة بحظر تصدير السلاح، وأكدت أن التدخل العسكرى الخارجى فى ليبيا مصدر قلق ويعقد الوضع هناك، مشددة على أن استقدام جنود أتراك سيثير ردود فعل من دول الجوار تفجر الموقف، أردوغان رد محذرًا من أن بلاده لا يمكنها البقاء صامتة أمام توظيف مرتزقة «فاجنر» الروس، لدعم الجيش الوطنى.. رد الفعل التركى يعتبر محاولة تحريضية، للاقتراب من الموقف الأمريكى، الذى احتج على استحياء، وربط تصعيد معارضته بظروف تفاقم الأزمة. وفى الحقيقة أن روسيا فى الأزمة الليبية أمام اختيار صعب، فلو كان موقف تركيا يستهدف فقط قطع الطريق أمام مد خط أنابيب «إيست ميد» لمنع تصدير غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، وهو بالفعل أحد الأهداف الرئيسية، لكانت روسيا مؤيدة وداعمة لحليفها التركى، ولو من وراء الستار، لكن الأمر يتعلق بخطط تدخل عسكرى تركى فى ليبيا، تربك كل الحسابات الروسية، فى الوقت الذى تستهدف فيه موسكو سرعة حسم الموقف وإنهاء المعارك، وهى تفضل بالطبع أن يتم لصالح نظام بنغازى، لأن السراج يخضع للإخوان والميليشيات، لكنها تأمل فى كل الأحوال أن تفوز بعد انتهاء الحرب بصفقات أسلحة، وتعاقدات تتعلق بإعادة تشغيل البنية الأساسية والمرافق، ناهيك عن المصالح الناشئة عن وجود دولة صديقة مثل ليبيا بموقعها الجيواستراتيجى جنوب المتوسط، تضاف إلى سوريا.
روسيا ردت على قانون العقوبات الأمريكى، بتوقيع اتفاق جديد مع أوكرانيا والاتحاد الأوروبى فى برلين ٢٢ ديسمبر، يقضى بتجديد اتفاق نقل الغاز الروسى عبر الأراضى الأوكرانية إلى أوروبا، لمدة ٥ سنوات قابلة للتجديد لعشر سنوات أخرى، مقابل ٢.٩ مليار دولار، تسددها قبل ٢٩ ديسمبر الجارى، مقابل تنازل أوكرانيا عن جميع الدعاوى القانونية القائمة.. هذه التسوية المفاجئة كانت نتاجًا للقاء قمة نورماندى، بين رئيسى روسيا وأوكرانيا فى باريس ٩ ديسمبر الجارى، التى تمت بوساطة فرنسية ألمانية.. مما يمثل تحديًا للعقوبات الأمريكية، وتأكيدًا بأن الغاز الروسى ستتم مضاعفة صادراته إلى أوروبا عبر أوكرانيا وبموافقة الاتحاد الأوروبى.. لهيب المعارك فى ليبيا، ومخاطر التهديدات التركية شرق المتوسط، يخفى وراءه معركة حامية الوطيس بين القوى العظمى حول الغاز.
إسرائيل والأزمة
منذ بداية الأزمة الليبية، والموقف التركى معنى بتوظيفها لخدمة مصالحه فى قضية غاز شرق المتوسط، كل الإجراءات التصعيدية التركية استهدفت استفزاز دول المنطقة المعنية بالقضية، لفرض أمر واقع جديد، لكن إسرائيل هى الوحيدة التى لزمت الصمت، حتى إزاء الاتفاق التركى مع السراج، مما شجع أردوغان على التبجح بأنه «لن يُسمح لقبرص ومصر واليونان وإسرائيل بالقيام بأنشطة بحث وتنقيب أو إنشاء خط نقل غاز طبيعى لأوروبا، مرورًا بالمناطق التى حددتها تركيا بموجب الاتفاق، دون موافقة أنقرة»، ولم تكتف تركيا بتحذيرات أردوغان، بل قامت بإبلاغها رسميًا للقائم بأعمال السفارة الإسرائيلية فى أنقرة، إمعانًا فى الاستفزاز، والتأكيد على أن هذا التحذير يعنى إسرائيل بالدرجة الأولى، لأنها صاحبة مشروع خط أنابيب «إيست ميد».
الاستفزاز التركى اتخذ طابعًا عسكريًا، عندما طردت الزوارق الحربية التركية سفينة الأبحاث الإسرائيلية «بات جاليم» من المياه الاقتصادية القبرصية، وعليها طاقم إسرائيلى قبرصى مشترك أول ديسمبر ٢٠١٩، الطائرات الحربية الإسرائيلية ردت بطلعات استطلاع فوق المنطقة التى تقوم فيها تركيا بعمليات تنقيب، أعقبتها مناورات جوية فوق سفينة تنقيب تركية بالمنطقة الاقتصادية الحرة لقبرص ١٥ ديسمبر.. تركيا تتراجع عادة أمام ردود الفعل «الخشنة»، وهو ما حدث بالفعل؛ قناة «كان ١١» العبرية كشفت عن أن مسئولًا تركيًا كبيرًا فى مجال الطاقة سلم رسالة إلى إسرائيل أكد فيها «استعداد أنقرة للتفاوض حول خيار نقل إمدادات الغاز الإسرائيلية إلى القارة الأوروبية مباشرة عبر الأراضى التركية».. العرض التركى استهدف تحييد إسرائيل فى النزاع الناشب بين أنقرة وكل من أثينا والقاهرة ونيقوسيا، وافترض أن قبول إسرائيل العرض يعنى تسليمًا بحق تركيا فى القطاع الذى حددته الاتفاقيات من شرق المتوسط، أما تجاهله فهو يعنى إحاطتها بالأمر الواقع الذى قد تضطر للتسليم به مستقبلًا.. لكن إسرائيل امتنعت عن الرد ورفعت لواء التحدى.
نتنياهو أعلن لأول مرة «استنكار مذكرة التفاهم غير القانونية المبرمة بين تركيا والسراج لترسيم مناطق التبعية البحرية»، ودعا قبرص واليونان للتوقيع فورًا على تنفيذ اتفاقية «إيست ميد»، وشبكة توزيع الغاز المرتبطة بضخه إلى أوروبا، والتى وقعتها إسرائيل مع الدولتين بمشاركة إيطاليا والاتحاد الأوروبى فى ٢٥ نوفمبر ٢٠١٨، كما بدأت فى تفعيل اتفاقيات التعاون الدفاعى مع قبرص، لتوفير الحماية لآبار الغاز بالمنطقة.
ووزير الطاقة الإسرائيلى يوفال شتاينتز وقع على التصاريح اللازمة لتصدير الغاز من إسرائيل إلى مصر، تنفيذًا للاتفاق المبرم فى فبراير ٢٠١٨، بين شركة ديليك الإسرائيلية، مالكة حقلى «ليفياتان» و«تامار» وشركة «دولفينوس» مصر، وذلك بعد أن تمت تسوية الغرامات المفروضة بموجب قرارات التحكيم الدولية، على النحو الذى اشترطته مصر.. الصفقة «عملاقة» تبلغ ٦٤ مليار متر مكعب من الغاز الطبيعى، تمتد لعشر سنوات، وتبلغ قيمتها ١٥ مليار دولار، وتتم عملية التصدير عبر خط أشكيلون العريش، دون أى قدرة لتركيا على إعاقتها.. تطور يثير شخصية سيكوباتية كأردوغان، على نحو قد يدفعه للتصرف بمزيد من العدوانية وهو ما ينبغى التحسب له.
المعركة التى تدور رحاها فى طرابلس، هى أقل معارك «حرب الغاز» سخونة.. مصر أفصحت فيها عن دعم صريح لقوات الجيش الوطنى الليبى بقيادة حفتر، وهو موقف تأخر كثيرًا.. اعترافها السابق بالسراج نبع من التزامها بالتوافقات الدولية التى دفعت به إلى الصدارة، لكنها احتملت كثيرًا جراء استناده إلى دعم الميليشيات المسلحة، وتعاونه مع الإخوان والتنظيمات المتطرفة، وتكفى الإشارة إلى كميات الأسلحة والذخائر والمتفجرات الضخمة التى تم تهريبها إلى داخل البلاد، وجماعات التخريب التى تسللت لتقتل وتروع الآمنين.. إفصاح مصر عن موقفها هذا خطوة بالغة الإيجابية، دفاعًا عن أمنها القومى، ووقاية من التهديدات التى تتعرض لها فى خاصرتها الغربية، وهو ما لا بد أن ينعكس على توازنات القوى على الساحة الليبية خلال الفترة المقبلة.