رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مطبخ أو «غُرزة» قرطاج!


استياء الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، من رائحة الدخان، أو من وجود مدخنين، فى المؤتمر الصحفى، الذى جمعه بالرئيس التونسى قيس سعيد، جعلنا نعتقد أن المؤتمر انعقد فى مقهى متواضع أو «غرزة». وبترجيح الأخير أنها رائحة الغداء، ظننّا أنهم فى مطعم أو مطبخ، قبل أن نكتشف أنهم عقدوا المؤتمر فى قصر الرئاسة التونسية: قصر قرطاج!.
بقدر من الاستخفاف وكثير من الوقاحة، قال الرئيس التركى: «بدأت أشم رائحة الدخان.. وأنا فى كل المناسبات أوصى بأن التدخين مضر وأحب أن يكف الإخوة عن التدخين». وبارتباك لا يليق برئيس دولة مستقلة، ردّ قيس سعيد: «شكرًا لك.. شكرًا لكم، سيدى الرئيس، على هذه المشاعر التى أبديتموها.. لعلها رائحة الغداء هى التى تفوح.. أو رائحة زيت الزيتون من مطبخ تونسى خالص»!.
لم نكن شاهدنا غير هذا المقطع، الذى تداوله بعض المواقع الإلكترونية الدولية والعربية، باعتباره طرفة أو نكتة، لكن حين شاهدنا المؤتمر الصحفى كاملًا، فوجئنا بأن هذا المقطع كان أبرز وأهم ما جاء فيه. وقبل أن نضرب أخماسًا فى أسداس، عرفنا من بيان أصدرته نقابة الصحفيين التونسيين، أنه جرى منع ١٣ صحفيًا ومصورًا من تغطية المؤتمر، وأنه كانت هناك قائمة مسبقة بأسماء الصحفيين المسموح لهم بدخول القصر الرئاسى. وعليه، استنكرت النقابة ما وصفته بسياسة التعتيم التى تنتهجها رئاسة الجمهورية منذ تولى قيس سعيد الحكم.
إلى تونس، ذهب لص المتوسط، الأربعاء، فى زيارة مفاجئة، غير معلن عنها مسبقًا، يرافقه وفد يضم وزيرى الخارجية والدفاع، ورئيس جهاز المخابرات، والمتحدث باسم الرئاسة التركية ورئيس دائرة الاتصال فيها. ولأن الحكومة التونسية لم تتشكل بعد، لم يجالس كل هؤلاء غير الرئيس التونسى وحده، وبدا واضحًا فى المؤتمر الصحفى أنهم عصروه، وأجبروه على بيع قرار تونس الوطنى بثمن بخس: مستشفى للأطفال، ووعود باستيراد التمر وزيت الزيتون!.
كل القوى والأحزاب السياسية التونسية، تقريبًا، باستثناء حركة النهضة الإخوانية، انتقدت تلك الزيارة وأعلنت رفضها استعمال تونس بشكل يتناقض مع مصالحها ومع سلامة علاقاتها العربية والدولية. وحذّرت من أى تفكير فى استعمال تونس منصة لأى عمل مخابراتى أو أمنى أو عسكرى لصالح تركيا فى ليبيا. وأكدت أن الانحياز إلى أحد طرفى الصراع من شأنه تصدير الأزمة الليبية إلى الداخل التونسى المتأزم أساسًا.
موجة القلق التى أحدثتها زيارة لص المتوسط فى الشارع التونسى، بأحزابه وحركاته ومواطنيه، أكدها وزير داخلية فايز السراج، الخميس، بتأكيده أن «حكومة الوفاق وتونس والجزائر فى حلف واحد». وبات التشكيك واجبًا فى نفى مستشارة الرئيس التونسى لهذا التصريح، وفى زعمها بأن تونس لم تنضم إلى أى حلف وأنها «متمسكة بحيادها».
مما يحسب للرئيس الراحل الباجى قائد السبسى، أنه حرص على عدم توريط قرار تونس الوطنى فى الأزمة الليبية، وقام باستقبال كلا الطرفين بقصر قرطاج: المُشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطنى الليبى، ثم فايز السراج، رئيس ما كان يوصف بـ«المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق الوطنى». وخلال اللقاءين المنفصلين، أكّد الرئيس الراحل للطرفين حرص تونس على عدم التدخل فى الشأن الداخلى لليبيا ووقوفها على مسافة واحدة من جميع الأطراف، موضّحا أنّ دورها يقتصر على تسهيل الحوار وتشجيعه، فى إطار من التعاون والتنسيق مع الأمم المتحدة لإنهاء الأزمة القائمة والبدء فى ترتيبات العملية السياسية. وشدّد على أن حل الأزمة الليبية بيد الليبيين أنفسهم، وأن تونس ليس لديها أية أجندة فى ليبيا سوى عودة الوئام والأمن والاستقرار إلى ربوعها وأن تستعيد عافيتها وتسترجع مكانتها الطبيعية وتحافظ على وحدتها.
موقف تونس السبسى، غير المنحاز لأىّ طرف، انقلب عليه قيس سعيد، جزئيًا، بعدم استقباله غير السراج وممثلى «المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية»، ثم جاء انسحاقه أمام الرئيس التركى، فى المؤتمر الصحفى، وعدم تعقيبه على مزاعمه بعدم شرعية الجيش الوطنى الليبى ومجلس النواب المنتخب، ليؤكد اصطفافه بشكل كامل وواضح مع تركيا، وانحيازه إلى غلام أردوغان، أو وكيله فى ليبيا. الأمر الذى يتناقض مع ما سبق أن طرحه، منذ أيام، فى مبادرته الرومانسية، أو ما وصفه بـ«إعلان تونس للسلام»، الذى لم يتضمن غير كلام إنشائى ساذج، لا يمكن أن يكون له أى وزن أو قيمة على الأرض أو تحتها.
يؤسفنا، بكل تأكيد، أن يتحول قصر قرطاج، بما له من رمزية، إلى مطعم، مطبخ، مقهى متواضع أو «غرزة»، تتصاعد منها روائح كريهة، يصعب تمييزها. لكن ما يطمئن هو أن الأشقاء فى تونس، باستثناء فئة ضالة، يدركون قبل غيرهم أن طبخة «أردوغان وسعيد»، بها سم قاتل، ستقضى على التونسيين، قبل أن تصل إلى موائد دول الجوار.