رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دعوة وطنية إلى وسطية عملية


تتكرر عبارة الوسطية على ألسنتنا من كبيرنا لصغيرنا، مثقفين وبسطاء، نسمع عبارة «خير الأمور أوسطها»، فالوسطية لغة هى مصدر صناعى يدل على التمكن فى الوسط، كما أن كلمة وسط تدل على العدل والإنصاف فيقال: «أعدل الشىء أوسطه»، والمراد هنا هو تحقيق العدالة.
فى ذلك يقول الشاعر: لا تذهبن فى الأمور فردًا.. لا تسألن إن سألت شططًا، وكن من الناس جميعًا وسطًا. ويقال هذا الرجل وسيط فى قومه. كما أن الوسط فى كل شىء أعدله وأجوده. كما يقال: «إن الوسط بين ممدوح ومذموم يكون من الأجود والأفضل فأعدل الأشياء أوسطها».
ومن الجانب الفلسفى نجد أن أرسطو فى فلسفته الأخلاقية يقول إن الحق هو وسط بين طرفين، وجعل هذا المبدأ أساسًا للفلسفة الأخلاقية، فيقول إن الفلسفة وسط بين رذيلتين. فالطريق الوسط، فى رأيه، هو أساس الفضيلة التى هى وسط بين طرفين كليهما رذيلة، ويقيس بأمثلة من الواقع فيقول: الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والكرم وسط بين الشح والإسراف، والطموح فضيلة بين الكسل والاندفاع، والصداقة فضيلة بين التملق والمقاطعة، وهكذا تتعدد الأمثلة.
ويتفاخر فلاسفة اليونان بأن منهج الوسطية هو ما يميز الفلسفة اليونانية، حيث كان المبدأ فى ذهن أفلاطون عندما عرّف الفضيلة بأنها انسجام فى العمل، كما عرفها سقراط بربطها بالمعرفة لتقود إلى انسجام فى العمل. وربط أرسطو نظريته فى الأخلاق من مفهوم الوسط السياسى، وقد كان هذا المفهوم سائدًا لدى ملوك الفراعنة.
واليونانيون ساروا على ذات النهج من ذات المنطلق الأخلاقى، وفى الفنون والبناء والهندسة بوجه عام.
أما السؤال الذى طال النقاش حوله وهو مكانة الوسطية فى الأديان، ففريق أجازه وآخر قاده الشطط إلى غير هدى، فإذا ما بحثنا فى أفكار الفيلسوف الشهير «توماس الأكوينى»، وهو كاثوليكى المذهب عاش فى القرن الثالث عشر، فقد دافع عن مبدأ الوسطية وأطلق على هذا المبدأ: «الوسط الذهبى»، وما يقصده هو إعمال هذا الفكر فى الكنيسة ودعاه «الفكر المسيحى الوسيط».
أما توماس الأكوينى، ومن منطلق خلفيته الدينية، فهو لا يرى انطباق الوسطية إلا على الفضائل البشرية، أما الفضائل الروحانية، أى الدينية فلا تخضع لهذا القياس.
أما النموذج الآخر فقد خرج من الكنيسة الإنجليكانية أو الأسقفية، ويستدل بترجمة الإنجيل إلى لغة الشعب، أى الإنجليزية فى عام ١٥٤٤ ميلاديًا، وجاء فى مقدمة الترجمة «إن حكمة رجال الكنيسة أنها قبلت أول ترجمة للإنجيل إلى لغة الشعب بعد أن كان مقصورًا على لغة رجال الدين لإيماننا بأن ذلك هو أسلوب الطريق الوسط».
ومن الضرورى أن نتعرض إلى مبدأ الوسطية السياسية، حيث انطلق هذا الفكر من إنجلترا أولًا وفى ظروف اشتد فيها النزاع بين الملك والبرلمان ومع شدة ما عرف بالحرب الأهلية عام ١٦٨٨ واتفق الإنجليز على مبدأ الحلول الوسطية والاعتدال دون شطط، وكان فى ذلك تآلف وقبول ورضا بين الحاكم أو الملك والشعب. ولا يزال حتى وقتنا هذا تسير إنجلترا على هذا المبدأ. كما ظهر هذا المبدأ فى فرنسا فى زمن متقارب، أى عام ١٨٣٠ ميلاديًا وقيادة لويز فيليب لفض النزاعات بين الحاكم والشعب، الأمر الذى عارضه فى البداية «لافاييت» بالقول: إن الوسطية والاعتدال لا يعطيان الثقة فى تعبيرات غير محددة. ومع ذلك الخلاف فقد ظل مبدأ استخدام الوسطية أو الطريق الثالث، كما أطلق عليه، قائمًا وسائدًا.
والتاريخ يسجل أن مبدأ الوسطية الأساسية قديم ومتأصل فى أذهان الشعوب والحكومات، بل قيل إنه مبدأ استخدمه الإنسان فى القرن السابع عشر قبل الميلاد حتى وجدت العبارة التى تقول: «يوجد الأمان فى الطريق الوسط». والشاعر الألمانى جوته يسجل العبارة: «تنبع السعادة الحقيقية من الوسطية والاعتدال».
كما يرى بعض المفكرين أن طبيعة المصريين وموقعهم الجغرافى يقول إننا شعب وسطى، أى أن هويتنا المصرية الحضارية إذا ما قارناها بحضارات أخرى فى تاريخها البشرى نكتشف أن الحضارة المصرية حضارة وسطية، فالهوية المصرية بتاريخها الحضارى الزاخم يشهد بأن الحضارة المصرية هى حضارة وسطية.
أما السؤال الذى يفرض نفسه فهو: هل حافظ المصريون على حضارتهم الوسطية، أم أن مؤثرات أخرى تحاول جذبها إلى طرف أبعد من الوسط فى اتجاه طرف يقترب إلى التطرف؟ والدارس لتاريخنا كشرق أوسطيين يجد أن تميزنا بأننا تلقينا الديانات الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، بل وقبل الأديان الإبراهيمية عاش المصريون فى تميز حضارى وأخلاقى ودينى لم تشهده معظم دول العالم القديم منها والحديث، وكل هذا الرصيد يفترض من شعوب المنطقة التمييز الأدبى والعلمى والأخلاقى كثمار لمبادئ روحانية مصدرها قوة تفوق تصورات الإنسان الطبيعى الدافعة إلى التقدم فى العلوم بكل مجالاتها والمستويين الأدبى والأخلاقى، وكذلك المادى، أما إذا كانت المنطقة تعيش عكس ما كان منتظرًا منها أن تكون فلا بد من عوامل غيَّرت مسارها أو تحاول ذلك، كما غيّر نهر النيل مساره، ولكنه لم يبخل علينا بمائه، فلا يزال يعطى ويروى رغم الاعتداءات المتكررة على مساره ونقاء وصفاء مياهه.