رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قراءة عادية لقرار عادى


كن مع بشار الأسد أو ضده، لكن حاول قدر استطاعتك ألا يتسبب موقفك منه، أو من غيره، فى تعطيل عقلك، وألا تكون كهؤلاء الذين استقبلوا خبر هروبه بالتكبير والتهليل، بعد ثوانٍ معدودة من استقبالهم، بالتكبير والتهليل نفسه، خبر مقتله!
قرار عادى جدًا، أو هكذا نراه، أصدرته المديرية العامة للجمارك السورية، يوم الخميس الماضى، بالحجز الاحتياطى على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة لشركة «آبار بتروليوم سيرفيسز»، ش.م.ل «أوف شور»، المسجلة فى بيروت، ولكل من: على محمد حمزة، ورامى محلوف بن محمد، ومحمد خير العمريط بن سعيد، وباهر السعدى بن عبدالعزيز، وعلى أموال زوجاتهم إن وُجدت. وجاء فى القرار أن الحجز يأتى ضمانًا لاستعادة أموال مستحقة للخزانة العامة للدولة عبارة عن رسوم استيراد وغرامات.
وجود اسم رامى محمد مخلوف، ابن خال بشار الأسد، فى القرار، أعاد تدوير حكايات وأساطير تتعلق بكونه الذراع الاقتصادية للعائلة الحاكمة فى سوريا، وأتاح لخبراء «الهبد» إرجاع القرار إلى وجود خلافات داخل تلك العائلة. ثم رجّحت «مصادر» أن يكون سبب تلك الخلافات تدهور صحة محمد مخلوف «خال بشار ووالد رامى» الذى تجاوز الرابعة والثمانين، بزعم أن هناك مخاوف من أن تذهب أمواله، التى هى أموال العائلة، لأبنائه حال وفاته!
آخرون، أرجح عقلًا، أو أقل هبلًا، رأوا أن الهدف من القرار، ومن قرارات مماثلة طالت رجال أعمال آخرين، هو إجبار هؤلاء على مساندة الاقتصاد المنهار. وفات أصحاب هذا التفسير وسابقوهم، أن هذا القرار يتناقض مع ما أشيع سابقًا عن قيام بشار بوضع يده على شركات رامى، وهو ما فسروه، وقتها، بأنه انقلاب عليه، بعد أن أصبح، على حد زعمهم، رمزًا للفساد وصار التخلص منه، أفضل كثيرًا من التستر خلفه.
سبق أن قيل، أيضًا، إن الرئيس السورى قام بوضع رامى، نفسه، تحت الإقامة الجبرية، وسلم شركاته إلى آخرين. وتراوحت تفسيرات هذا القرار بين إعادة تدوير التفسيرين السابقين، وبين كونه محاولة للالتفاف على العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة عليه، مع أن العقوبات مفروضة على رامى منذ ٢١ فبراير ٢٠٠٨ بموجب أمر تنفيذى أصدرته الخزانة الأمريكية حمل رقم ١٣٤٦٠، جاء فى نص بيان الإعلان عنه أن مخلوف «أثرى وأسهم فى الفساد العام، وقام بتخويف خصومه التجاريين للحصول على مزايا غير مشروعة».
لك مطلق الحرية فى أن تتفق مع ما جاء فى قرار الخزانة الأمريكية، ويحق لك أيضًا أن تتبنى كل الحكايات والروايات التى تتحدث عن فساد رامى «واللى جابوه»، وعما صدر بشأنه من قرارات بتفسيراتها وتحليلاتها وسلطاتها «بفتح السين». لكن هذا ليس موضوعنا، لأن موضوعنا يتعلق بأصحاب القدرات الخارقة الذين يخرجون من القرارات العادية باستنتاجات وتفسيرات غير عادية.
لدينا مثل هؤلاء، بل ولدينا أيضًا متخصصون فى توليد النملة، التى اتفق الخبراء على أنها تبيض. ويحدث، مثلًا، أن يتم إلقاء القبض على «سين» أو «صاد» تنفيذًا لحكم صدر فى قضية شيكات بدون رصيد، أو قضية نفقة، فتظهر تحليلات واستنتاجات تفسّر تنفيذ الحكم بوجود صراعات بين أجنحة فى السلطة، قادت إلى معارك تكسير عظام بين عفاريت ذلك الجناح وأشباح الآخر. وكأن عدم تنفيذ الأحكام القضائية هو العادى، بينما تنفيذها هو الاستثناء، الذى يحتاج إلى تدخل هذه الأشباح أو تلك العفاريت، بعد صراع أو معركة!
نرجع إلى أصل الموضوع، أى إلى قرار الحجز الاحتياطى على شركة «آبار بيتروليوم سيرفس»، وأصحابها، لقيامهم باستيراد شحنات من المنتجات البتروليّة، دون سداد الرسوم أو الجمارك. وعليه، كان طبيعيًا أن تؤدى «المديرية العامة للجمارك» واجبها أو «تشوف شغلها». ولن نختلف لو قلت إنها لا يمكنها أن تصدر قرارًا كهذا دون الرجوع إلى الرئيس أو استئذانه. فقط، سألفت نظرك إلى أن ذلك سيُحسب للرجل، لا عليه. والقياس نفسه ينسحب على قرارات حجز احتياطى شبيهة، وكثيرة، صدرت، ضد رجال أعمال كثيرين، أبرزهم طريف الأخرس، قريب أسماء الأخرس زوجة الرئيس، ودريد الأسد، ومحمد حمشو وأيمن جابر، وغيرهم من المحسوبين على النظام السورى أو المعروفين بدعمهم غير المحدود له.
كل هذه القرارات، وبينها القرار الخاص بشركة «آبار بيتروليوم سيرفس»، أو برامى مخلوف وشركائه، مجرد قرارات عادية، أو هكذا نراها، وسيتم إلغاؤها وإلغاء ما ترتب عليها من إجراءات، بعد سداد مبالغ المخالفات الجمركية والغرامات المستحقة. ووقتها، سيجد العباقرة أنفسهم، أو غيرهم، يبنون على إلغاء القرار، تحليلات وتفسيرات «أنقح»، من تلك التى خرجوا بها من صدور القرار. وستجد، أيضًا، من يستقبلون تحليلاتهم وتفسيراتهم بالتكبير والتهليل، كهؤلاء البلهاء الذين استقبلوا، خلال أقل من دقيقة، خبرى وفاة ثم هروب بشار الأسد!