رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أغرب إعدام فى مصر


هى محاكمة سليمان الحلبى قاتل كليبر. وفيها يقول المؤرخ المصرى عبدالرحمن الجبرتى: «وهذا آخر ما كتبوه وطبعوه بالحرف الواحد، ولم أغير شيئًا مما رقم، إذ لست ممن يحرف الكلم، وما فيه تحريف فهو كما فى الأصل، ونحن لم نغير من ألفاظه شيئًا والله أعلم».
كانت المحكمة قد حكمت على سليمان بعقوبة تسمح بها تقاليد البلاد فى ذلك الوقت، فقد كان الموت على الخازوق شائعًا، ولكن تلك العقوبة لم تتفق مع مبادئ الجمهورية الفرنسية المستنيرة.
وفى ١٧ يونيو ١٨٠٠، أى بعد الواقعة بثلاثة أيام حمل نعش كليبر المصنوع من الرصاص المصفح، وعليه قبعته وسيفه والخنجر الذى قتله، إلى مدفنه باحتفال عسكرى ضخم، وكان الجنرال مينو يتصدر ذلك المشهد، ودقت الطبول دقًا خافتًا ووضعت عليها علامات سوداء بالكريب الأسود، وحمل الجنود بنادقهم منكسة ووضعوا قطعًا سوداء على أكتافهم وأكمامهم، وحضر الجنازة وفد من المماليك يمثلهم مراد بك، وأعيان القاهرة، مسلمين ومسيحيين، وتوقف المشهد، وأنزل عند تل العقارب.
كان سليمان ورفاقه ينتظرون إعدامهم عند هذا التل.
وانطلقت المدافع تعلن بداية تنفيذ أحكام الإعدام فى المتهمين.
أوكلت عملية تنفيذ حكم الإعدام إلى الجنرال الرومى برطملين، وبدأ بقطع رءوس الشيوخ الثلاثة أولًا، كما نص الحكم أمام سليمان، وخلال تلك الفترة كان الفحم يحمى فى مجمرة، وبعد الانتهاء من إعدام الشيوخ اقتيد سليمان إلى المجمرة، ووضعت الجمرات على كفة يده، غير أن برطملين أزاح النار إلى المرفق، ولكن سليمان نبهه أن الحكم لم يشمل المرفق، وقال سليمان إن برطملين كلب، وأصر على موقفه حتى أزيحت النار عن مرفقه.
وقد سجل أحد الحاضرين التفاصيل الكاملة لعملية الإحراق والخوزقة، وهى من البشاعة بحيث تتعذر كتابتها.
وعندما هم سليمان بالجلوس على الخازوق طلب شربة ماء، وهم أحد الفرنسيين أن يناوله إياها، ولكن برطملين منعه، لأن أى شربة ماء كانت كفيلة بالقضاء عليه، وهذا يعطل مجرى العدالة، كان سليمان وهو على الخازوق يتلو القرآن، وهو ما ساعده بلا شك على تقبل الأمر.
ولا شك أن سليمان لم يعرف أنه بقتل كليبر قد أنهى محاولة للصلح كان يزمع القائد الفرنسى أن يقوم بها، وأحل محله مهووسًا بالحرب.
بعد أن لفظ سليمان الحلبى أنفاسه‏،‏ أمر‏ جاك مينو‏‏ بوضع جثمانه سبعة أيام فى العراء الصحراوى،‏ حيث افترست الجوارح والوحوش لحمه‏،‏ فلم يتبق من جثمانه سوى رفاته من العظام‏.‏
بفشل الحملة الفرنسية على مصر بتحقيق أغراضها‏،‏ وخروجها من مصر يوم ١٨ أكتوبر ١٨٠١،‏ حرص قائد الحملة على حمل جمجمة وبقية رفات سليمان الحلبى معه إلى فرنسا عبر البحر‏،‏ وفى وقت لاحق‏،‏ مع إنشاء متحف‏ أنفاليد‏ فى باريس‏ فى مكان قريب من متحف اللوفر وساحة الكونكورد، حيث تنتصب مسلة رمسيس الثانى، التى كانت منصوبة فى معابد الكرنك‏،‏ خُصص رفان من أرفف إحدى قاعات العرض فى هذا المتحف‏،‏ على أعلاهما وضعت جمجمة الجنرال‏ كليبر‏ وإلى جانبها لوحة صغيرة مكتوب عليها‏: جمجمة البطل‏ الجنرال كليبر‏،‏ وعلى الرف الأدنى تحته وضعت جمجمة سليمان الحلبى‏،‏ وإلى جانبها وضعت لوحة صغيرة مكتوب عليها‏: جمجمة المجرم‏‏ سليمان الحلبى‏،‏ وهى أصغر حجمًا من جمجمة الجنرال‏. ‏
ولقد خصص تاريخ مصر الحديث‏ موضعًا فى صفحاته المجيدة لاسم سليمان الحلبى‏،‏ وقررت حكاية بطولته كمادة للتدريس فى برامج التعليم فى المدارس المصرية وسميت باسمه عدة شوارع فى القاهرة ومدن مصرية أخرى تخليدًا لذكراه‏،‏ وهى الذكرى التى تتجدد بعد مرور قرنين على إعدامه.‏