رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجامعة العربية ولعنة ليبيا


فى الوقت الذى بدأت طبول الحرب تدق فى شرق البحر المتوسط، بسبب الاتفاقية المشبوهة بين تركيا وحكومة الوفاق غير الشرعية فى ليبيا، والتى اعتُبرت بمثابة محاولة لشرعنة الاحتلال التركى لليبيا، كانت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية تعقد اجتماعًا غير عادى لمندوبيها الدائمين يوم الخميس الماضى، لبحث «الخطوات والإجراءات التى يمكن أن تقوم بها الدول العربية إزاء الخطوة غير القانونية التى قامت بها جمهورية البرازيل من خلال فتح مكتب تجارى لها فى مدينة القدس كجزء من سفارتها لدى إسرائيل»، وهو ما يوحى بأن تطورات الأزمة الليبية لا تشغل بال الجامعة العربية، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد.
وأنا- ومثلى كثيرون- لا أفهم سر الصمت الرهيب من جانب جامعة الدول العربية، تجاه ما يحدث الآن فى ليبيا خاصة بعد الاتفاق الأخير بين تركيا وحكومة الوفاق التى فقدت شرعيتها، عمليًا وقانونيًا، منذ ديسمبر ٢٠١٧، لماذا تلتزم الجامعة، وهى بيت العرب، الصمت وهى ترى خطوات ممنهجة لإدخال القوات التركية إلى ليبيا، أو بمعنى أدق خطوات ممنهجة من أجل احتلال تركيا أجزاء من تركيا بمباركة ودعم مالى قطرى بطبيعة الحال؟!.
لا أصدق أن يقال إن الجامعة تنأى بنفسها عن التدخل فى الشئون الداخلية لدولة عضو بالجامعة، خاصة أن الجامعة هى التى اتخذت فى بداية الثورة على القذافى فى فبراير ٢٠١١ قرارًا بدعوة مجلس الأمن لفرض حظر جوى على ليبيا، وبتوفير الدعم للمجلس الانتقالى الليبى، لاعتبارها بأن حكم القذافى قد سقط، وهو ما اعتبر تمهيدًا لعملية «فجر أوديسة» التى نفذتها قوات التحالف الأمريكى البريطانى الفرنسى ضد نظام معمر القذافى، التى أدت فى النهاية إلى سقوطه وسقوط ليبيا كلها فى مستنقع الفوضى.
لقد كانت إجراءات الجامعة العربية آنذاك تجاه ليبيا، هى الأولى من نوعها فى تاريخها، وكذلك قرار تجميد عضوية سوريا، وهو ما أسهم أيضًا فى إغراقها فى مستنقع الربيع العربى الأسود.
وقد اعترف ناطق باسم وزارة الخارجية البريطانية فى سبتمبر ٢٠١٦، بأن «قرار التدخل فى ليبيا كان قرارًا دوليًا بناءً على طلب من جامعة الدول العربية، وأذِن به مجلس الأمن الدولى».
فهل امتلكت الجامعة العربية الشجاعة فى عهد أمينها العام الأسبق عمرو موسى، لاتخاذ خطوة سمحت بتوجيه ضربات عسكرية أدت فى النهاية لإسقاط نظام الحكم، لكنها لا تملك اليوم فى ظل أمينها العام أحمد أبوالغيط، شجاعة مماثلة لحماية ليبيا العربية من مخاطر الاحتلال التركى.. أو لاتخاذ خطوة بسحب الاعتراف بحكومة الوفاق التى فقدت شرعيتها بالفعل منذ عامين، لأن البرلمان الليبى المنتخب لم يعترف بها، وبقائدها فايز السراج الذى وقع اتفاقية لا يملك حق التوقيع عليها بموجب اتفاق الصخيرات؟.
هل العيب فى نظام الجامعة العربية التى تعبر عن إرادة الحكومات وليس عن إرادة الشعوب.. أم أن العيب فى أن هناك دولًا تمتلك نفوذًا غير مفهوم وغير مبرر، وهى التى سهلت قرارًا بطلب فرض الحظر الجوى والتدخل الدولى فى ليبيا، وسهلت أيضًا صدور قرار مثل تجميد عضوية سوريا فيها، وإعطاء مقعدها إلى الائتلاف الوطنى السورى المعارض أثناء قمة الدوحة العربية؟.. وهل يمكن أن يؤدى هذا النفوذ إلى تعطيل إصدار أى قرار يحول دون التدخل التركى فى ليبيا، ودون تقسيم سوريا واحتلال جزء منها بواسطة الأتراك أيضًا؟
هناك تحركات مصرية وإفريقية لسحب الاعتراف بحكومة الوفاق، وهو إجراء يعنى تأكيد عدم شرعية اتفاقها مع أردوغان، ولا شك أن اتخاذ قرار مماثل من جانب الجامعة العربية يُفقد هذه الحكومة آخر ورقة توت تستر بها عورتها، وقد طالب عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبى، جامعة الدول العربية بالتدخل العسكرى بشكل عاجل لحماية المؤسسات والمنشآت «الشرعية» فى مواجهة الميليشيات المسلحة التى قال إنها باتت تهدد أمن واستقرار البلاد، ولكن دعواته لم تجد آذانًا مُصغية من الجامعة العربية حتى هذه اللحظة، فالجامعة تركز فى كل بياناتها حول ليبيا على الحوار كطريق أمثل للوصول إلى الحل السياسى، مع أن كل الطرق صارت مسدودة أمام أى حوار إلا حوار السلاح.
لقد بدأ الأتراك يشحنون الإرهابيين بالمئات من سوريا إلى ليبيا، وهم بهذا يكسرون الحظر الأممى بدخول السلاح إلى ليبيا، ويمهدون للسيطرة على ثروات الشعب الليبى، ويهددون بالتدخل واحتلال ليبيا، ألا يكفى كل هذا لحث الجامعة العربية على التحرك؟
الحقيقة المؤكدة أن لعنة ليبيا قد بدأت تصيب كل الدول التى تدخلت فيها عسكريًا وسياسيًا، فالغرب، وفرنسا وإيطاليا على وجه الخصوص، يواجه غزوًا من آلاف المهاجرين غير الشرعيين الذين يبحرون إليه من الشواطئ التى يزيد طولها على ألفى كيلومتر ودون دولة تحرسها، وتسيطر عليها، حتى تركيا بدأت لعنات ليبيا تطاردها بعد الاتفاقية غير المشروعة مع السراج، حيث رفضت دول أوروبية عدة هذه الاتفاقية، كما رفضت تدخلاته فى الشأن الليبى، وتدخلاته ومحاولاته لإشعال الموقف فى مواقع التنقيب عن الغاز فى شرق المتوسط.. فهل تصيب هذه اللعنة «الليبية» الجامعة العربية أيضًا، وتؤكد بشكل قاطع أن استمرار هذه المنظومة بشكلها الحالى أصبح يحتاج، وبصورة ملحة، إلى إعادة نظر شاملة؟.