رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جامعة الدول العربية.. تحدى عودة الروح



تعددت الآراء التى تتناول، غالبًا بدهشة واستنكار، تحليل الهوس الذى استحوذ على حاكم تركيا أردوغان تجاه مصر. المؤكد أن ثورة ٣٠ يونيو لم تكن سهلة عليه، فقد أنقذت المنطقة العربية من تحقيق حلمه الطامع بتحويل المنطقة إلى دويلات إسلامية خاضعة لسيطرة تركيا أمنيًا واقتصاديًا. أصبحت مصر بمثابة كابوس يطارد الرئيس التركى كل ليلة وهاجس يدفعه مع إشراقة كل شمس إلى البحث فى دفاتره الخائبة عما يخدم أوهامه فى تهديد أمن مصر القومى، وإرباك جيشها الوطنى، حتى لو كان الثمن إحراق تركيا والمنطقة بأسرها متجاوزًا أشهر نماذج تاريخ جنون الفاشية المتمثل فى حرق نيرون مدينة روما.
آخر حلقات المسلسل الفاشل اتفاق تقاسم السيادة البحرية مع حكومة فايز السراج فاقدة الشرعية، الذى استحق بجدارة لقب «اتفاق رخيص بين من لا يملك ومن لا يستحق». باع السراج، فاقد الشرعية السياسية والشعبية، سيادة ليبيا مقابل دعم تركى لن يقدم بالمجان، استجابة لهرولة تركية نحو تحقيق المزيد من النفوذ فى ليبيا من خلال الرهان على القرب الأيديولوجى مع التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها جماعة الإخوان، أدار السراج ظهره لثوابت القوانين الدولية ومصالح المنطقة، فى دليل واضح جديد على تقديم الولاء العقائدى على ثوابت الأوطان. الاتفاق يمثل مواجهة مباشرة ضد مصر.. المثير للدهشة قصر رؤية أردوغان، أسير هوس العداء لمصر، الذى أعجزه عن قياس مكانة وقدرات مصر بدقة وفق الحقائق على أرض الواقع. إذ ما زال يمارس «أمراضه النفسية» من منطلق زاوية متدنية حاول «ضيوفه» من أعضاء «عصابة البنا» استدراج مصر إلى قاعها. حسابات «والى» تركيا كان مقدرًا لها الفشل ليس بسبب دعوات وأمنيات الصالحين.. لكن وفق كل التقديرات السياسية التى لا تعترف بالنوايا سواء خبيثة أو طيبة، اختار أردوغان الهبوط إلى مجرد «ظاهرة صوتية» تليق بزعماء عصابات وليس رؤساء دول، لا يتوانى عن التدنى إلى أرخص الأكاذيب والمناورات لاستدراج مصر إلى صراعات تستنزف قدراتها، ليكشف بذلك عجزه عن استيعاب أن أولويات أسس حفاظ أى دولة على استقرارها ومكانتها المؤثرة تفرض عدم ابتلاع أى «طعم» ساذج يلقى إليها إقليميًا أو دوليًا. مصر تخوض معاركها الدبلوماسية والأمنية على أسس كونها دولة قوية تجيد استخدام الأسلحة اللائقة بمكانتها سواء كانت ضبط الأعصاب أو حسن إدارة الأزمة عبر القنوات التفاوضية أو الإشارات الأمنية التى ترسل بها. لن تفعل مصر مع جارتها الشقيقة ليبيا ما فعله أردوغان فى سوريا، وتحتل شريطًا حدوديًا لتأمين حدودها الغربية من الخطر الإرهابى المدعوم من تركيا ودول أخرى.
التسويق الرخيص فى تبرير رعونة «شطحات» أردوغان لمواطنيه عن المصالح التى ستجنيها البلاد للخروج من أزماتها الاقتصادية بالتأكيد لا تنسجم مع كل المعايير السياسية والاقتصادية، فى ظل حالة عداء شاملة مع دول العالم بكل تحالفاته واتحاداته. تركيا استطاعت كسب مساحة فى القارة الإفريقية عبر علاقات اقتصادية، لكن تحول هذا الشق إلى فرض هيمنة عسكرية وأمنية كما حدث ويحدث فى الصومال والسودان، فإن العبء سيفوق قدرة تركيا على تحمله، فهى لا يمكن أن تقف فى وجه العالم، والتفاهم الذى حققته مع روسيا وأمريكا حول تدخلاتها فى سوريا من الصعب تكراره فى ليبيا، نتيجة وجود عدة أطراف دولية ضالعة فى الأزمة الليبية، وجميعها أعلن مؤخرًا عن موقفه الرافض للتدخلات التركية فى ليبيا، تركيا أيضًا تدرك أنها لا تستطيع الخروج من عزلتها بمفردها.. لذا بحثت عن شريكين فى المنطقة، جمهورية شمال قبرص التركية وحكومة السراج.. ضعف هذين الحليفين يجعلهما قابلين للاستغلال، وهو ما دفع تركيا إلى وهم إمكانية تمرير هذه الاتفاقية. شعار «المكاسب الاقتصادية» لا يترجم إلى واقع عبر طريق المغامرات والغوغائية بقدر ما يستدعى قيادة وحكومة تمتلك حكمة استيعاب وتهدئة الأزمات التى يدفع الأتراك ثمنها، نتيجة مغامرات شخص تجرد من كل مواصفات رئيس دولة. سمعة أردوغان أصبحت فى الوحل عند العرب وأغلب دول العالم، فهو على مدى ثمانى سنوات من ارتكاب المجازر فى سوريا لم يرسل جنديًا واحدًا لمساعدة الشعب هناك.. بالتالى كيف ينتظر أى مصداقية من تدخله فى ليبيا تحديدًا وأن المجتمع الدولى كان بصدد عملية سياسية تبدأ بمؤتمر فى ألمانيا بين الأطراف الدولية والإقليمية المهتمة بالشأن الليبى، يليه مؤتمر وطنى ليبى ينهى حالة الانقسام من خلال اختيار حكومة تمثل الليبيين. اتفاقية أردوغان- السراج وجهت ضربة استباقية لإجهاض هذه المساعى الدولية، وهو ما حذر منه غسان سلامة، المبعوث الأممى إلى ليبيا، عن فشل مؤتمر برلين للسلام بسبب خطورة الاتفاقية المشبوهة. ظاهرة أردوغان الصوتية مع إعلانه حق تركيا نشر قوات فى ليبيا وإقامة قواعد عسكرية دفعت به للاقتراب من عدة خطوط حمراء.. أولًا: انتهاك قانون حظر الأسلحة الذى تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا.. ثانيًا: خطورة الاتفاقية الوهمية لا تقتصر فقط على الدول الرافضة له، بل تشكل تهديدًا بالمفهومين الاقتصادى والأمنى على كل دول المتوسط ضمن القارات الثلاث، آسيا وأوروبا وإفريقيا.. ثالثًا: استغلال ليبيا كورقة ابتزاز وضغط على دول أوروبا بعد تهديد أردوغان لأوروبا مرارًا إغراقها بالمهاجرين. تمادى الظاهرة الصوتية للنظام التركى إلى توجيه تهديداته إلى أمريكا عبر تصريحات وزير الخارجية التركى بأنه فى حال فرض أمريكا عقوبات على تركيا، فإن أنقرة ستعيد النظر حول الوجود الأمريكى فى قاعدتى أنجيرليك وكورجيك.. تهديد لن تستطيع تركيا تحمل تبعاته حتى وإن صدر اعتمادًا على العلاقات الروسية- التركية. تاريخ كلتا القوتين «أمريكا وروسيا» أثبت عدم إعلاء أى مواقف أو تحركات سياسية على المصالح المشتركة بينهما.