رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللغة والهوية الوطنية




تحتل اللغة قيمة رمزية بالغة الأهمية للأمم والشعوب، فلغة أى شعب هى المُعبِّر الأساسى عن هويته وشخصيته، والحامل الرئيسى لسماته الوطنية، وقسماته القومية، والحفاظ على اللغة هو حفاظ على لسان الأمة وترجمان أحوالها، والتنازل عنها تنازل عن الانتماء لأرض وشعب وتاريخ وحضارة، لصالح لغات أخرى مُقتحِمة، وثقافات غريبة مُستورَدة.
وكما لفت نظرى، فقد لفت نظر الكثيرين، فى الفترة الماضية، غزو اللغات الأجنبية الشرس، خاصة الإنجليزية، والفرنسية «بنسبة أقل»، الشارع والحياة فى مصر. انظر إلى إعلانات الشوارع والكبارى والمحاور الدائرية والطرق السريعة، ولاحظ هيمنة اللغات والتعبيرات «الإفرنجية» عليها، وكذا الحال بالنسبة إلى أسماء المحلات والمطاعم والشركات ودور السينما والمجمعات السكنية و«الكمبوندات» ومرافق السياحة والنوادى والشواطئ.. إلخ، والأدهى: نُظم التعليم فى المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية: «الأمريكية، والإنجليزية، والفرنسية، والكندية، والألمانية، والروسية، والطينية...»، بل «رياض الأطفال» التى أصبحت «K.G»، التى يُعلِّمون فيها أطفالنا، منذ نعومة أظفارهم، وقبل أن يتملكوا أسرار لغتهم الوطنية، لغات أقوام أخرى، والكلام والتخاطب والتعبير، بلغات أجنبية.
وقضية «الغزو» باللغة ليست مسألة مُستحدثة، بل هى قديمة قِدم المشاريع الاستعمارية التى حرصت على ربط الشعوب التى استعمرتها، بثقافة المستعمِر، الأقوى، فكريًا وثقافيًا، حتى تُصبح قيادتها سلسة، كما أن رياح «العولمة» التى اجتاحت المعمورة، وبسطت ثقافتها النيوليبرالية، ورؤاها العابرة الحدود الوطنية، وأنماط حياتها النفعية والاستهلاكية، على سائر أركان المعمورة، فرضت على اللغات الوطنية التراجع، وبعضها الانزواء، بل الانقراض حتى.
هذا الأمر أبرزه بعمق وشجاعة «نجيغو واثيونغو»، الكاتب الكينى الكبير، المُرشَّح لجائزة «نوبل»، فى حوار عميق نشرته مجلة «الفيصل»، مؤخرًا، يقول فيه إنه حين طالع تاريخ الاستعمار، اكتشف أن «المُستَعمِر لا يكتفى فقط بفرض لغته، بل يعمل على إنكار لُغات المُستعمر ويبخسها ويستصغرها ويقمعها»، وشرح أن «اكتساب لغة المُستعمِر قائمة على ضمور لُغات المُستَعمَر، ومنها ما عاشه الأيرلنديون فى ظل الاستعمار البريطانى، وإذلال السُكان الأمريكيين الأصليين، وبَخس لغاتهم والحط منها، ومنع الأفارقة التحدّث بلغاتهم، وفرض اللغة اليابانية على الكوريين، أما فى الهند فقد كان «ماكولاى» صادقًا وبوحشية فى التعبير عن رغبته فى خلق طبقة من الهنود يتحدثون الإنجليزية، وتوظيفهم فى استتباب الحكم على بقية السُكّان، وهو تمامًا ما يُلاحظ فى إفريقيا وفى أى مكان طاله الاستعمار. سُلِّحت اللغات الإفريقية ضد الأفارقة. وكانت اللغة سلاح حرب، سواء كنا نتحدث عن الإسبانية أو البرتغالية فى أمريكا اللاتينية، أم الفرنسية فى إفريقيا وفيتنام، وقد شكّلت اللغة عُنصرًا مهمًا فى غزو المُستعمِر وصيانة حكمه الاستعمارى، وذلك عبر أدمغة الطبقة الوسطى».
وعَبّرَ «نجيغو واثيونغو» عن مخاوفه من هذا التوجّه الاستعمارى: «إن ما يُقلقنى هو أننا بطريقة ما نُمضى قُدمًا بلغات الثقافات التى مارست علينا القمع.. وهذا لا يجوز».
لا يجوز بالفعل أن تُحتقر لغتنا إلى هذا الحد، بعد ستة عقود ونصف العقد من مغادرة الاستعمار البريطانى أرضنا غير مأسوف عليه، كما لا يجوز بأى حال مطالبة البعض بإعادة نصب تمثال «ديليسبس»، أحد الرموز الاستعمارية البغيضة على أرض بورسعيد المصرية، التى طالما عانت من ويلاته، وكذلك لا يجوز أن يصل تعليم اللغة العربية فى مدارسنا وجامعاتنا إلى هذا الدرك الأسفل الذى يجعل البعض منهم عاجزًا عن كتابة سطر واحد صحيح بلا أخطاء، كما يجعل من كتابات بعض أبنائنا، ومنهم من تحصَّل على الشهادة الجامعية، نوعًا من اللوغاريتمات العصيّة على الفهم، كما أنه لا يجوز أن تُسمع فى المحلات العامة والنوادى أمهات يُخاطبن أطفالهن الصغار بلغة غير لغة وطنهم، أو تركهم لمربيات أجنبيات تربيهم بلغة أخرى غريبة. وإذا لم نع هذا جيدًا، وأسرعنا فى وضع حدٍ لمخاطره الآن، فربما لا يعود فى مكنتنا صنع هذا فى الغد الذى ليس ببعيد.