رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الست موزة نظام عالمى



كما تطل علينا نجمات السينما بفساتين جديدة، أطلت علينا الست موزة من على جدار فى معرض فى ميامى بيتش بأمريكا، وفى عينيها نظرة دلال وروقان. حدث ذلك حين قدم محتال إيطالى يدعى ماوريتسيو كاتيلان ما سماه لوحة من أعماله فى معرض «آرت بازل» للفن المعاصر، ولم تكن اللوحة المبهرة سوى موزة معلقة على جدار بشريط لاصق ولا شىء أكثر من ذلك. موزة مثل كل الموزات ومع ذلك فقد بيعت بمائة وعشرين ألف دولار لجامع أعمال فنية فرنسى. بحسبة بسيطة يتضح أن الكيلو الواحد من الست موزة يساوى نحو مليون دولار.
تشير هذه الحادثة إلى مدرسة واسعة التأثير فى الفن والأدب تفهم الفن بصفته نوعًا من الغرائبية والإدهاش والفانتازيا الرخيصة. الدلالة الأكثر أهمية أن عالمنا ليس ممتلئًا فقط بالمحتالين أدعياء الفن، بل بأولئك الذين من وفرة النقود لديهم لا يعرفون فيم ينفقونها. ثمة خلل ضخم فى النظامين السياسى والاقتصادى العالميين يمكن شخصًا سخيفًا من دفع مائة وعشرين ألف دولار فى موزة، بينما يموت آلاف الأطفال فى اليمن والصومال جوعًا وعطشًا. ثمة خلل ليس فقط فى النظام العالمى بل فى الضمير الاجتماعى أيضًا. يشترى البعض موزة بهذا المبلغ ملقيًا بالثروة فى الهواء مثلما كان الأثرياء سابقًا يشعلون سيجارة الراقصة بورقة من فئة المائة جنيه، استهانة بشقاء الملايين الذين لا يجدون مسكنًا لائقًا ويعيشون فى مدن من الصفيح والعشش، واستهانة بالذين يشهرون السكاكين على بعضهم بعضًا من أجل خمسة جنيهات، واستهانة بالذى قتل من أجل زجاجة مياه معدنية. وهى استهانة شرعية وقانونية يقرها النظام العالمى الذى يقوم على مبدأ المكسب المفتوح، والإثراء من دون رقابة أو حساب. ومن على جدار النظام الاقتصادى العالمى أطلت علينا الست موزة بدلال، تسخر من أوجاع البشرية. وليست الحركات الشعبية الواسعة فى فرنسا وتشيلى والسودان والعراق وغيرها سوى احتجاج عنيف على نظام الموزة، وعلى الاستهانة بحق ملايين البشر فى العمل والسكن والتعليم والعلاج. وإذا لم يكن لنا يد فى سيادة نظام الموزة العالمى، فإن لنا يدًا كبرى فى تربية الضمير الاجتماعى والإنسانى، بحيث يلتفت إلى من حوله ويتطلع إلى همومهم. فى العام الماضى كشف تقرير للأمم المتحدة عن أن هناك مليارًا وثلث المليار شخص فى العالم تحت خط الفقر، نصفهم من الأطفال المحرومين من المسكن والتعليم والرعاية والطعام. وأشار تقرير للبنك الدولى إلى أن نحو نصف سكان العالم يعيش الفرد منهم على أقل من خمسة دولارات يوميًا، هذا فى البلدان الثرية، أما فى البلدان الفقيرة فيعيش الفرد على نحو دولارين فى اليوم، لا أكثر. وفى تقرير آخر صادر عن الأمم المتحدة فى ديسمبر ٢٠١٧ حول الفقر المتعدد الأبعاد شاركت فيه جامعة الدول العربية، بلغت نسبة الفقراء فى البلدان العربية ٤٠.٦ فى المائة من السكان. وبرغم بحر الشقاء الواسع هذا فإن الموزة تطل علينا فى أبهى حلة، إشارة إلى خلل ضخم فى الضمير الإنسانى، الذى لا يعبأ بحقائق صادمة، مثل أن نحو خمسة عشر مليون طفل يمنى غارقون فى الجوع والموت والرصاص، حتى إن خيرت كابالارى، المدير الإقليمى لليونيسف فى الشرق الأوسط، قال فى ختام زيارة لليمن العام الماضى: «إن الظروف التى يعيش فيها أطفال اليمن تجلب العار على البشرية كلها». وأضاف خيرت أن هناك «نحو سبعة ملايين طفل يمنى ينامون كل ليلة وهم جياع». وبرغم الشقاء الذى يعيشه العالم، فإن الست موزة تطل علينا فى أبهى حلة من فوق جدار نظيف فى معرض للفن المعاصر، وتخرج لنا لسانها وتصيح فى وجهنا: «التفاهة فى هذا العالم أغلى من حياة البشر، وانظروا.. ها أنا أمامكم.. موزة.. موزة واحدة فقط.. بمائة وعشرين ألف دولار»!.