رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التلوث الضوئى ونعمة الظلام



خلق الله كل شىء بقدر، فجعل اليابسة والمياه بالقدر الذى يسمح بالحياة المتوازنة على سطح الكوكب، وجعل الماء العذب والماء المالح بالنسبة التى تلائم احتياجات الكائنات الحية، وجعل الليل والنهار فى تتابع لراحة المخلوقات، فلا نهار وكد وعمل دائمة ولا ليل ونوم مستمرين، وقد أضاف الإنسان الكثير من الوسائل والاختراعات التى يسّرت له الحياة على الأرض، لكن الإنسان لم يكن حكيمًا أو رشيدًا فى استخدام مخترعاته، لذا تظهر كل فترة عاقبة للإسراف البشرى فى استخدام المنجزات الحديثة بما يترتب عليه من أضرار للإنسان والطبيعة والكائنات من حوله.
منذ ١٤٠ عامًا قام «أديسون» باختراع المصباح الكهربائى، الذى يعتبره البعض من أعظم إنجازات البشرية، فقد بدد ظلمة الليل وما يتبع هذه الظلمة من مخاوف وأشباح، وكأنه أضاء طريقًا للعقل كى يسلك كل السبل، فلم يعد هناك شىء غامض، وأصبحت كل الكائنات والظواهر قابلة للفحص تحت الضوء الذى لا يقطعه غياب شمس أو أفول قمر.. وتطورت أساليب الإضاءة وقوتها فأصبحت حياة الإنسان نهارًا مستمرًا، وصار الإسراف الضوئى، بزيادة انتشار مصابيح الإضاءة فى المنازل والشوارع والمتنزهات، خطرًا يهدد صحة الإنسان وينذر بعواقب وخيمة بسبب عدم التوازن البيئى.
وفى دراسة نشرتها دورية «ساينس أدفانسيس»، وجد الباحثون بعد تحليل بيانات الأقمار الصناعية أن نسبة التلوث الضوئى تزداد بتسارع فى مختلف دول العالم، مؤكدة بذلك المخاوف من الآثار البيئية للتلوث الضوئى على الإنسان والحيوان على حد سواء. وأوضح الباحثون أن وتيرة الزيادة فى انتشار الأضواء الساطعة ليلًا فى البلدان النامية أسرع بكثير منها فى الدول الغنية.
ولاحظ الباحثون ازدياد المساحة المضاءة فى أستراليا، بسبب حرائق الغابات، بينما تراجعت الأضواء الليلية المرصودة فى سوريا واليمن مع ما يشهدانه من حروب.
ويعد علماء الفلك أكثر العلماء الذين اشتكوا من تأثيرات الأضواء الصناعية على ضوء السماء، ما نتج عنه عدم مقدرتهم على تتبع المجرات أو إجراء تجاربهم وأبحاثهم، حيث أصبحت أضواء السماء مضاعفة عن أضوائها الطبيعية، وهذا جعل رصد الأجرام السماوية أمرًا فى غاية الصعوبة.
وقد ظهر مفهوم التلوث الضوئى حديثًا، حيث لم يكن له وجود قبل الثمانينيات من القرن الماضى، بعد أن رصد العلماء عددًا من الظواهر الناتجة عن هذا التلوث، منها ما ذكره المركز التابع لجمعية الحماية فى شيكاغو، فى الولايات المتحدة الأمريكية، الذى أورد أن أكثر من ١٠٠ مليون طير إلى ما يقارب المليار ماتت بسبب الاصطدام بالبنايات الشامخة والشاهقة، خاصة أثناء موسم الهجرة عبر البلاد، حيث تتسبب الإضاءة الليلية الساطعة فى اختلال بوصلة الطيور.
كما تسببت الأضواء الساطعة فى حدوث هيجان لدى بعض الكائنات البحرية، ما أدى إلى أن قامت هذه الكائنات بمهاجمة مصادر تلك الأضواء، كما حدث على أحد شواطئ ألاسكا، حيث قامت بعض الكائنات بقطع وتدمير الأعمدة الكهربائية الموجودة عليه.
كما تؤثر هذه الظاهرة على سلامة الحيوانات الليلية بشكل كبير، كالوطاويط وأنواع مختلفة من الطيور والفراشات الليلية والبرمائيات، فمثلًا صغار السلاحف التى تفقس بيوضها على سواحل البحار تتجه إلى المدن حيث مصادر الضوء الصناعى بدلًا من أن تتجه إلى مياه البحر حيث مكانها الطبيعى، ما يؤدى إلى هلاك عدد كبير منها.
أما عن تأثير هذه الظاهرة على الإنسان فتؤدى إلى حدوث اضطراب فى جسم الإنسان، وتسبب اضطرابات فى عدد دقات القلب ما تجعلها تتزايد بشكل سريع، وارتفاع ضغط الدم، وحدوث صداع فى الرأس، ما يسبب للإنسان عدم ارتياح وشعورًا بعدم التركيز وإرهاقًا وعدم الاستطاعة على النوم بشكل صحى ما قد ينتج عنها أمراض سرطانية تصيب الجسم.. وتزداد خطورة التلوث الضوئى على الأطفال والمرأة الحامل، حيث إن تواجد الطفل فى أماكن بها إضاءة عالية ومساحات تكثر فيها الأضواء يؤثر سلبيًا على قرنية العين للطفل، ما يؤدى إلى عدم اكتمال نموها بشكل طبيعى، ما يؤدى إلى إصابة الأطفال بقصر النظر.. أما الحامل فتتعرض لمواد مشعة تخرج من الأضواء الصناعية تؤدى إلى عدم قيام الجسم بوظائفه بشكل سليم.
وربما لا يعرف كثير من الناس فائدة الظلام لصحة الإنسان، إذ يؤكد الأطباء أن التعرض للضوء بشكل مستمر أثناء السهر يؤثر على تقليل إفراز الغدة الصنوبرية لهرمون الميلاتونين، وهو مضاد قوى للأكسدة ولنمو الخلايا السرطانية، وبينت إحدى الدراسات أن جسم الإنسان يتخلص من ٨٠٪ من السموم والشوارد الحرة إذا ما ذهب إلى النوم قبل منتصف الليل، حيث يكون الميلاتونين فى الجسم قد بلغ ذروته، ولكن بعد ذلك لا يتخلص الجسم إلا من ٢٠٪ فقط من هذه السموم، وذلك لارتباط إفراز الميلاتونين بمدة الظلام من ناحية، وبالساعة البيولوجية من ناحية أخرى، فإذا ما قلَّت ساعات التعرض للظلام لفترة زمنية طويلة فإن كثيرًا من السموم والشوارد الحرة ستتراكم فى الجسم لتعيث فيه فسادًا.
يبدو أنه قد آن الأوان لنخفف من سطوع المدينة، وأن ننشد بعضًا من الإعتام رفقًا بأعصابنا وأجسامنا، عل بعضًا من ظلام يصلح ما أفسدناه بالإسراف فى الضوء.