رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولىُّ الحياة.. رسائل "الحرافيش" لـ"نجيب محفوظ" فى عيد ميلاده الـ١٠٨

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

«اتركونى أحب الجميع، وأظن أن الجميع يحبوننى».. تلك كانت رسالة الأديب العالمى نجيب محفوظ لمحبيه وأصدقائه وتلامذته، الذين ما زالوا يعيشون على ذكراه، حتى رغم مرور نحو ١٣ عامًا على رحيله. ولمَ لا وهو الذى عاش بينهم إنسانًا يبث السلام والجمال فى الأرواح، وغاب عن الدنيا بعدما أثرى تراث البشرية بأعظم الأعمال الخالدة فى ذاكرة التاريخ. فى عيد ميلاده الـ١٠٨، الذى يحل اليوم الأربعاء الموافق ١١ ديسمبر الجارى، يحيى هؤلاء الأصدقاء والتلامذة سيرة حب «نجيب»، عبر رسائل اختصوا بها «الدستور»، ويبعثونها إلى «أديب نوبل» وهو فى الحياة الآخرة. من بين هؤلاء التلامذة والأصدقاء، الكاتب إبراهيم عبدالعزيز، والروائيون يوسف القعيد وسعيد سالم ومجيد طوبيا، والدكتور محمود الشنوانى، والمهندس محمد الكفراوى، والطبيب الخاص بالراحل سامح وجيه حنا.

يوسف القعيد: سنستحضر روحك ونحن نشاهد «زقاق المعجزات» فى متحفك

كان حلمك يا نجيب أن يكون هناك متحف يحمل اسمك، أنت كنت زاهدًا فى كل شىء، وها هو المتحف قد أقيم، وسنقيم لك، بالتعاون مع أكاديمية الفنون، احتفالًا بميلادك لا يقل عن الذى كنا نقيمه بعد رحيلك.
سنعرض فى متحفك فيلم «زقاق المعجزات» المكسيكى، الذى أدت بطولته الفنانة العالمية سلمى حايك، المأخوذ عن روايتك «زقاق المدق»، وسيُعرض بالترجمة العربية، حقيقى أنه عرض فى مهرجان القاهرة السينمائى عام ٢٠٠٦، لكنه لم يكن مترجمًا، والدكتور أشرف زكى والدكتور وليد سيف تعبا حتى ترجما الفيلم، والاحتفال سيشارك فيه عزت العلايلى وصفية العمرى وهالة صدقى، وستقدمه الدكتورة أمانى فؤاد، وسيشارك فيه الدكتور فتحى عبدالوهاب.
وأنا باعتبارى مشرفًا على المتحف، أقول لك: روحك ستظل معنا، وابنتك أم كلثوم معنا، وأصدقاؤك وأحباؤك سيكونون معنا، ربما لم تر الفيلم فى حياتك، لكننا أحضرناه وترجمناه وسيعرض عرضًا جماهيريًا، وسنستحضر روحك، وستكون معنا طوال المشاهدة، وأعتقد أنك ستكون سعيدًا، لأننى أعرف جيدًا مدى حبك السينما، وكيف كنت تتردد على دور العرض فى وسط البلد، وتشاهد الأفلام الجديدة بمفردك، وأنت تشترى التذاكر وتشاهد العرض بمنتهى التواضع ومنتهى التخفى.

مجيد طوبيا: أتذكر مكافأة الـ20 جنيهًا.. ونداء «يا زُمل»

لن أنسى لك يوم أن كنا جالسين فى مقهى «ريش»، وقلت لك إن هناك عسكريًا ضرب نارًا من رشاش آلى، وقلت يومها «قلشة» رائعة، وهى «كان آلى ولا واطى». كنت محبًا للحياة وكان دمك خفيفًا جدًا، ولن أنسى لك موقفك يوم أن كنت رئيسًا للتحكيم فى مسابقة للقصة القصيرة، وفزت أنا بها، ووصل إلى سمعى أن اللجنة تفكر فى إلغاء القيمة المادية وتحولها إلى عينية، لكنى وجدتك فى مقهى «ريش»، وسألتك عن صحة هذا الخبر، فأدركت بفطنتك وحكمتك أن من يسأل هذا السؤال هو حتمًا الفائز بها، وكنت بالفعل فائزًا، فسألتنى هل «أنت مجيد طوبيا؟»، فضحكت لذكائك وقلت لك: «نعم، أنا مجيد طوبيا»، فأخرجت من جيبك ٢٠ جنيهًا، وقلت: «هذه الجائزة من جيبى الخاص وملعون أبواللجنة». وفى الأخير أنا أعتز بإهدائك كتبك لى، وبكلمة «يا زمل» التى كنت تقولها لى دائما، أنا أشكر الظروف التى جعلتك صديقًا لى، وأتمنى أن أراك على خير، أنا أظن أنك فى مكان عظيم هناك فى السماء، فأنت لا تستحق مكانًا أقل.

سامح وجيه حنا: لم تخذل أى كاتب مبتدئ.. كل الرحمة لروحك

عمى وعم الكل، أستاذنا الكبير فى الأدب والذوق وفن الحياة، الله يرحمك ويرحم أيامك الأصيلة التى عشناها معك فى زمن جميل لن ننساه أبدًا، وبالرغم من مرور سنين عديدة على فراقك لكن ابتسامتك الهادئة وضحكتك الصافية ما زالت تداعب أذهاننا فى كل مرة، ذكراك الطيبة تهل على مخيلتنا، وما زالت هذه الذكرى الطيبة بكل تفاصيلها الجميلة مطبوعة فى عقولنا وأنت قادم علينا فى الندوة بخطواتك المتمهلة وعلى ملامح وجهك ترتسم حكمة السنين الممزوجة بالطيبة والتواضع الجم.
كنت مستمعًا جيدًا للصغير منا قبل الكبير، كنت أبًا حنونًا ورقيقًا لنا جميعًا، لم تخذل أى كاتب مبتدئ، وكان لسانك يعف عن قول أى شىء ردىء فى حق أى إنسان مهما صدر منه، بل كنت دائمًا التشجيع والدعم من جانبك لكل من يطلب مشورتك، كل الشكر للظروف الحميدة التى قادتنى إلى معرفتك عن قرب، والتشرف بالوجود فى مجلسك الموقر، ومهما قلنا من كلام لن نوفيك قدرك أبدًا يا عم نجيب.
صدقنى.. أنت رحلت عنا بجسدك ولكنك تعيش بيننا بروحك الطيبة وكتاباتك العبقرية وآرائك التى كانت تجمع بين الحكمة وخفة الدم، كل الرحمة لروحك الطيبة وذكراك العطرة.

سعيد سالم: لا أنسى تأجيلك روايتك لمنحى فرصة نشر

أستاذى العزيز نجيب محفوظ، أحلى أيام عمرى قضيتها بصحبتك وفى ظل حبك ورعايتك. الإسكندرية لا طعم لها فى غيابك، ومجالس الثقافة والفن والأدب والسياسة انتهى عهدها منذ انتهى عهدك بحياتنا، التى أصبحت بائسة منذ غيابك. ما كان أعظم حديثك وأطيب مجلسك، كم افتقدت خفة ظلك ونصائحك الرائعة لنا فى مواجهة الحياة. أيها الجبل الشامخ العملاق من الفن والفكر والمعرفة، لم نعد نرى فى مصر مثيلًا لك، رحمك الله وغفر لك. أنا وإن نسيت فلن أنسى يوم أخرت إرسال إحدى رواياتك لملحق «الأهرام» حتى تتيح لى الفرصة لنشر روايتى، ولم تكتف بذلك بل طالبت محمد زايد، مشرف الملحق فى ذلك الوقت، بتأجيل نشر روايتك لما بعد نشر روايتى.. أنتم السابقون ونحن اللاحقون.

محمود الشنوانى: بتمشَّى فى الحسين حين أشتاق إليك

أستاذى الحبيب أوحشتنى.. هل يمكن إلا أن أكون فى اشتياق دائم لنفحات العطر التى كانت تتغلغل إلى روحى فى صحبتك وما زالت تسرى فيها، تجملها وتثريها وتزكيها؟.. لم تغب أبدًا يا والدنا وأستاذنا وصديقنا الغالى، بل تزداد حضورًا بقدر ما أصبحت جزءًا من تكويننا ومن رؤيتنا للحياة والناس.
عندما يستبد بى الحنين للقائك، أهرع إلى حيك العتيق الأثير، أصلى فى جامع سيدنا الحسين ثم أتمشى وسط الحارات والدكاكين. أقابل ياسين وكمال وحميدة وعباس الحلو وأحمد عاكف، وألمح الوجيه الأكبر سيد الرحيمى وعاشور الناجى الأسطورى والشيخ عبدربه التائه، أراهم يتجولون فى حارة الحياة، كما فعلوا من قديم الأزل، وكما سيفعلون إلى آخر الزمان.
ما زلت تعمر الحياة يا شيخنا الجليل وتزرع فيها وفينا عطر محبتها وأنوار حكمتها، وما زالت روحك السامية وبصيرتك المتجاوزة عونًا لكل من تراودهم الأمانى بحياة شاملة المعانى والأحاسيس.. ابنك وصديقك ومريدك.

إبراهيم عبدالعزيز: نبوءتك عن حكم الجماعة الإرهابية تحققت

أستاذى ومعلمى وصديقى نجيب محفوظ، صديق الكبير والصغير، ولفرط تواضعك كنت تشجعنا جميعًا بأنك بحاجة إلى علمنا، لترى به الدنيا وما فيها بعد أن ضعف بصرك، لكن بصيرتك كانت دائما نافذة وحاضرة.
أطمئنك يا سيدى من دنيانا وأنت تعيش فى العالم الأبقى، أن وطنك مصر بخير وعافية، وقد كان سؤالك اليومى الدائم فى كل ندواتك: «أخبار البلد إيه؟». كان الوطن شغلك الدائم وقد عبرت عنه أصدق تعبير فى رواياتك ومقالاتك، وقد شبهته بـ«سفينة»، وأوصيتنا، نحن شعب مصر، بأن نحافظ عليها فلا نغرقها بخلافاتنا وأنانيتنا ومصالحنا الصغيرة.
أكرر لك أن مصر بخير بعد أن مرت بمرحلة قاسية تعيسة من حكم «الإخوان». هل تذكر مقولتك النبوءة «يبدو أن المصريين يريدون أن يجربوا حكم الإخوان»، وقد جربوه فعلا، وكان يجب أن يجربوه لكى يعرفوا حقيقتهم ويتبينوا مقاصدهم الشريرة، إما أن يحكموا الوطن ويحكموا قبضتهم على خناقه أو يقتلوا أبناءه. الحمد لله أنك لم تعايش هذه الفترة، ومرت وكانت عارضة طائرة فى تاريخ مصر، بعد أن قيض الله لها ابنًا بارًا اسمه عبدالفتاح السيسى، جعله الله سببًا لنجاتها من تدبير خطير دفع ثمنه الشهداء من الشعب والجيش والشرطة، لكن كله يهون من أجل الوطن الذى علمتنا أن نحبه وأن نفتديه بأرواحنا.
أطمئنك أيضًا على سلامة الوحدة الوطنية، التى كانت همًا من همومك ومشاغلك، والمصريون- مسلمون ومسيحيون- على قلب رجل واحد، وكانت وقفتهم الموحدة هى السبب فى نجاة مصر من عصر الظلام الذى أراده «الإخوان».. لكن الله سلم. لا أطيل عليك.. لا تنزعج من بعض تلاميذك الأدباء، لا شك أن بعضهم يحاول أن يشتهر على حسابك بنقد تجربتك بالتقليل منها، وكم عانيت فى حياتك من المتطفلين والمتطاولين، الذين شككوا فى مجدك الأدبى، الذى حققته للوطن بجائزة نوبل، وشككوا فى أحلامك «أحلام فترة النقاهة»، التى ترجمت للغات عدة، وكان الهجوم عليك من بعض أصدقائك، لكن تسامحك كان يذيب كل الثلوح أمام ابتسامتك الجميلة وضحكتك المجلجلة.
سنقابلك يومًا لنحكى لك ونقص ونروى كما كنا نقص ونروى فى ندواتك، التى حُرمنا منها، لكن ذكراك تظل لنا نورًا وأدبك الروائى والأخلاقى يظل هاديًا وقدوة ورمزًا شامخًا لنا جميعًا، والوطن الذى يضعك فى قلبه وفى حبات عينيه.. سلمت أستاذى نجيب محفوظ وإلى اللقاء فى رسالة أخرى.

محمد الكفراوى: كنت عبقريًا وابن نكتة وأقرب إلى الكمال

كان إحساسى دائما وأنا ذاهب لرؤيتك فى الندوة هو أجمل وأقوى إحساس شعرت به فى حياتى وحتى اللحظة، لا أعرف كيف يمكننى أن أصفه لك، لكن كل ما يمكننى قوله إنه إحساس غامر بالسعادة والمحبة، وكل المشاعر الخيرة التى يمكن أن يختبرها إنسان، هذا الإحساس الذى يصل مداه حين كنت تقابلنى بابتسامتك الجميلة قائلا: «أهلا يا كفراوى».
كنت أيها العبقرى رمزًا للإنسانية فى أجمل وأشرق وأنبل صورها، كنا فى معيتك نشعر بهذا، ونتمنى لو أن الحياة تعاملنا مثلما تعاملنا، وأن تحترمنا مثلما تحترمنا، وأن تحنو علينا مثلما تحنو علينا أنت، أن تحاول أن تفهمنا مثلما تفهمنا أنت، لو أنها تستقبلنا وتودعنا بابتسامتها الجميلة وضحكتها المشرقة مثلما تفعل أنت. أقول لك برغم معرفتى أنه لا يوجد إنسان كامل، فقد يكون الإنسان عبقريًا فى مهنته، لكنه مغرور مزهو بنفسه وعبقريته، أو ربما يكون عبقريًا وكئيبًا لا يحتمل، أو يكون سليط اللسان، أو فى أفضل أحواله يكون إنسانًا عاديًا لا يثير الاهتمام، أما أن يكون الإنسان عبقريًا كأعظم ما تكون العبقرية، متواضعًا فى سلوكه مع الآخرين كأصدق ما يكون التواضع، واجتماعيًا مرحًا، و«ابن نكتة»، وإذا كان عمله يعمق فى مشاعرك حب الوطن وعشق الحياة- هنا ولحظتها نكون قد صادفنا إنسانًا يمكن أن نصفه بالإنسان شبه الكامل، وهكذا كنت يا عبقرى، لمن يسعده الحظ وتكون من أصدقائه، كنت إنسانًا أقرب إلى الكمال.. نعرفك أننا بخير ونعرف أنك بخير حتى يحين اللقاء.. لك منا ألف سلام.