رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مائة دقيقة من الجنون وجحيم الآخرين فى "الفنار"

الفنار
الفنار

يجلس الحارسان كل ليلة لتناول العشاء على نفس الطاولة، حيث يأكلان المـأكولات البحرية نفسها، ويشربان نفس النوع الوحيد من الخمر؛ يحدث ذلك بعد يوم طويل وشاق من العمل تحت ضغوط تعسفية يتعرض لها "إفرايم" من مدير الفنار "توماس"، والذى لا يكف عن إذلال الرجل وتعنيفه والتفنن في خلق مزيد من الاختناق في تلك المنطقة نائية والخانقة في الأصل.

حكاية فريدة عن الضجر يُقدمها الفيلم الأمريكي "الفنار"، وهو من إنتاج العام الحالي 2019، وبطولة الممثل وليام دافو، والذي عرفه الجمهور من خلال فيلمANTICRAIST- عدو المسيح 2009؛ ومعه روبرت باتنسون، المعروف بدور "مونت" في فيلم الخيال العلمي HIGH LIEF؛ ومن إخراج روبرت إيجيرز مخرج الأفلام القصيرة والتسجيلية، والحائز على الجوائز الرفيعة من المهرجانات العالمية، والذي نال أحدثها كأفضل مخرج عن الفيلم نفسه "الفنار" من مهرجان "كان" لهذا العام؛ والذي عُرض خلال مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الذي أسدل الستار على فعاليات دورته الـ41 مساء الجمعة الماضية.

في السطور المُقبلة قد أبدو متحيزة، رغم ذلك العدد الكبير الذي غادر قاعة المسرح الكبير الذي عُرض فيه الفيلم من ضمن أفلام القسم الرسمي خارج المسابقة والمرشح لجائزة الأوسكار، حيث يؤكدون عدم استيعابهم هذا النوع من الأعمال السينمائية ذات التفاصيل شديدة الفنية، والتي تجمع ما بين القيمة والعمق والتعقيد.

يتمتع الفيلم بتفرد وخصوصية شديدة، تضعه بالفعل في قائمة الأفلام المميزة ذات الحس الراقي التي تستحق التقدير وحصد الجوائز . يكفي أن تعرف شيئًا فريدًا هو أن الفيلم يدور في مكان واحد غير معروف الاسم أو الزمن، وبين شخصين فقط هما بطلا العمل اللذان تقضي أمامهما 109 دقائق، ولا يفعلان طيلة الوقت سوى أن يتشاركا الضيق والضجر والخمر والجنون. ببساطة يُمكنك القول إن فيلم "الفنار" هو فيلم جحيمي عن الضجر، يُذّكرنا بمقولة الفليسوف جان بول سارتر الشهيرة بأن "الجحيم هو الآخرون"، حيث عبر الفيلسوف الفرنسي عن جحيم الآخرة بأنه ليس ما يتخليه الناس السعير والعذاب، بل هو أن تبقي مع الآخرين في غرفة مغلقة تجمع في جنباتها ثلاث شخصيات هم رجل وامرأتين إلى الأبد؛ هكذا يُصبح كلٌ  منهم يصبح جحيمًا أمام الآخر. هذا بالضبط ما حدث بين حارسي الفنار، حيث نجد توماس يكيل السباب وينهال بالأوامر على إفرايم نهارًا، بينما يدعوه لأن يتذوق ذلك الصنف من المأكولات البحرية الذي قام بطهوه ليلًا، بينما يصاحبه الشراب.

إفرايم "روبرت باتنسون"، هو شاب وسيم ومتعلم، ولكنه اختار العمل في الأماكن البعيدة والنائية من أجل الحصول على راتب كبير بإمكانه أن يؤمن حياته ويشترى له منزلًا بعد عدة أعوام من الادخار؛ أما توماس "وليام دافو"، فهو عجوز سليط اللسان، وتستطيع القول إنه مختل نفسيُا، بعد أن هجرته أسرته وبقي وحيدًا في تلك الغرفة المعزولة أعلى قمة الفنار، ويحتفظ لنفسه كذلك بحق دخول غرفة "الكريستالة الضوئية" المستخدمة في إرشاد السفن بضوئها المبهر، مما يجعل إفرايم يشعر بأنه خادم لدى توماس وليس زميلًا له.

من منطلق هذه النقطة- إحساس إفرايم بالعبودية- يبدأ السيناريو المحكم الذي صاغه ماكس وروبرت إيجرز، في التطور من مرحلة إلى أخرى بشكل مخيف، يجبر المتفرج على التمسك بمقعده كي يراقب جنون هذا العجوز، ومراحل تطور الشاب إفرايم من الهدوء والكياسة إلى العراك والضرب حتى القتل. لا أقصد حرق جزء من الأحداث، ولكن ما فعله هذا العجوز المجنون لا بد وأن يؤدي إلى القتل! .

استخدم إيجيرز كاميرا قديمة ذات اللونين الأبيض والأسود، مع التعامل من خلال الزوايا الضيقة والحادة، في تعبير موفق عن المراحل النفسية التي يمر بها الطرفان، من صراع إلى ضحك وهزل، إلى تبادل الأسرار والبوح، وما يلبثان بعدها أن تنشب بينهما معركة، ومن ثم يفترشان الأرض سكارى ويغيبان في نوم عميق، ربما يستمعان إلى الموسيقى ويرقصان كالعاشقان، وربما يحطم أحدهما الراديو فيبكي الآخر لأن أغنيته لم تكتمل؛ يحدث كل هذا الجنون في ساعات الليل، في الوقت الذي يتحمل فيه إفرايم الجنون وحده في ساعات العمل نهارًا.

كذلك عبّر المخرج عن لمحات ماجنة، من خلال خطوط الأحلام السريالية التي تُذكّرنا بمخرج الغموض الكبير ألفريد هيتشكوك في فيلمه "SPELBOND"، حيث يتلقى إفرايم أحلامًا تميزت بسلاسة الخيال الممزوج بالواقع من جراء ما عرفه من تراث وأساطير البحارة عن عروس البحر التي سلبت عقولهم وقادتهم إلى الجنون، والتي عرفها على الطاولة نفسها ذات الإضاءة الخافتة في ليالي العشاء مع توماس؛ وقد تم استخدام الظل والضوء في سوناتا جمالية تمزج بين الضوء والظلام، وكوبان من الشراب يحملان اللونين الأبيض لإفرايم والكوب الأسود لتوماس، في إشارة إلى كل ما يحمله الشخص في نفسه، ولم يختلف الحلم عن الواقع في عراك إفرايم مع طائر النورس كل صباح، وما له من أسطورة أخرى يدعيها البحارة، وهي أن "إلقاء حجر على النورس هو فأل شؤم"، فيبدأ إفرايم في تصديق الأساطير المخيفة هذه، وتنتابه الأحلام المزعجة التي تم تصويرها في أفضل الصور والألوان.