رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"هاللو إفريقيا".. "الدستور" تتجول فى 5 من دول القارة السمراء

جريدة الدستور

يقولون إن من سمع ليس كمن رأى.. لكننى اقتربت وسمعت ورأيت.
كان ذلك منذ عدة أشهر، حين ذهبت فى جولة إلى ٥ دول إفريقية، متطوعة ضمن قافلة لإحدى المؤسسات الهادفة لمساعدة دول القارة السمراء.
امتدت جولتى إلى كينيا وبوروندى ورواندا وأوغندا وتنزانيا.
أنا أعمل مصورة بالأساس، وكانت هذه فرصة مثالية بالنسبة لى، هذه مشاهد ربما لا تراها إلا مرة واحدة فى حياتك.
من هنا شغلتنى «صورة» الناس لا أحوالهم، لم أهتم كثيرًا بالسؤال فالإجابة كانت حاضرة قبل أن أسأل.
هذه قارتنا التى نعرفها، بثرواتها، ومناظرها الخلابة، ومقوماتها الواعدة، بناسها الطيبين.. وبفقرها أيضًا.
هنا لن تقرأ كثيرًا.. سترى أكثر.. كيف يعيش هؤلاء كما رأتهم الكاميرا.


كينيا

استخدام الأكياس البلاستيكية «ممنوع».. وتبادل الطعام بين الزرافات والبشر بالفم
وصلت إلى «بيت الأفيال اليتيمة»، elephant orphanage، الذى يُفتح يوميًا لمدة ساعتين، من ١٠ صباحًا حتى ١٢ ظهرًا، وهى غابة مصغّرة تحمى الأفيال التى فقدت عائلتها وهامت فى البرية بين الحيوانات المتوحّشة، وتاهت، وباتت بلا مأوى لحمايتها من الخطر. هذا البيت جزء من مشروع قدّمته عائلة «شيلدريك» الشهيرة لمكافحة الصيد الجائر وإنقاذ الحيوانات وتوعية السكان المحليين بالحياة البرية، ومن تجليات تقديس حياة الكائنات الأخرى فى نيروبى منع استخدام الأكياس البلاستيكية، إنها جريمة يمكن أن تقودك إلى السجن فى كينيا.
تبعت الأفيال زيارة إلى بيت الزرافات، Giraffe center، الذى أنشئ لحماية الزرافات الضالة فى الطرق للحفاظ على هذا الجنس من الانقراض، فعلى آلاف الأميال، تهيم الزرافات بين الطرق السريعة والشوارع الجانبية والغابات، التى تخضع فيها لحكم الحيوانات الأكثر شراسة.. وفى الغالب، إذا تُركت بلا مأوى ستنقرض. وهناك، تعيش الزرافات أجمل أيامها، وجدت من يحمل مجموعة أكياس ورقية تحتوى على مأكولات للزرافات، تشتريها عند الدخول لتلعب مع الزرافات، فهى كائنات نفعية، حين تمنحها طعامًا من وراء «شبكة حديدية» تمنحك وقتًا للعب، ولا تمنعك تلك الشبكة من لمسها، أو إطعامها، لكن التقليد الأغرب فى إفريقيا هو تبادل الطعام بين الزرافات والبشر بالفم، كأنها قبلة طويلة يلعب فيها الطعام المتبادل دورًا هامشيًا، لكنه بالنسبة إلى مصرية قادمة من بلاد تبطش بالكلاب والقطط، كان مخاطرة. تجوّلنا بلا هَدف، ونصحونا بالعودة قبل أن تغيب الشمس: «خطر عليكم».
وخضنا التجربة، فى اليوم الأول، ليلًا، ورأينا المدينة فى صمت مميت، المحلات أغلقت، والأجواء بردت. عدنا، وقبل أن نتناول الغداء، ظهرت أطباق غريبة وعصائر أغرب: شاباتى «خبز يشبه الفطير المصرى»، الموز المقلى فى الزيت، وبيض مطهو بعشرات الطرق، فالبيض فى إفريقيا يشبه الوجبات المقدّسة، لا تخلو وجبة منه مهما اختلفت طرق إعداده أو شكله النهائى، فى الإفطار والغداء والعشاء، وأحيانًا يصبح أحد مكوّنات مجّ النسكافيه. دوَّنت عشرات الملاحظات عن البشر فى إفريقيا.. فرق موسيقية تعزف فى الشوارع، أماكن مخصصة فى الشوارع لـ«تنظيف الأحذية»، سيارات تخترق الطرق بسرعة ولا تراعى المارّة المحاطين بقرود من كل اتجاه ويرقصون على موسيقى إفريقية، بنات وأولاد يزيّنون شعورهم بـ«الدريد لوك»، الذى كشف سرًا عجيبًا عن الأفارقة. الضفائر الطويلة ليست جزءًا من شعورهم القصيرة بالفطرة و«الجينات»، إنما «دريد لوك» بألوان كثيرة لصقوه ليمتلكوا ضفائر طويلة.

ماساى مارا.. مشروب أسطورى عبارة عن حليب مخلوط بدم البقر.. والأسد حيوان أليف بالنسبة للأهالى

فى ماساى مارا، يمكن أن أقول إننى رأيت وجهًا آخر للحياة لم أكن أعرف أنه موجود، حياة القبائل البدائية التى لم أشاهدها حتى على «ناشيونال جيوجرافيك»، وتبعد فقط ٨ ساعات عن نيروبى، مشينا خلالها على طريق الرعب كى نصل إلى حياة تترك أثرًا صعبًا فى قلب كل من عاشها، أرضية غير صالحة لعبور السيارات، مطبات وهبوط أرضى، وكلما ابتعدنا عن نيروبى اختفت مظاهر الحياة.. اختفت المحلات والسوبر ماركت والبيوت والأنوار، وبدأت تظهر أكواخ وخيام وحيوانات متوحشة، وبشر فى ملابس عجيبة.
جرى استقبالنا فى «ماساى مارا» بمشروب أسطورى للترحيب بنا.. حليب مخلوط بدم البقر، وهنا يقول الأهالى إنه لم تصلهم أى رسائل سماوية ولم يزرهم أى نبى. لم أجد تليفونًا أو خط إنترنت كى أتواصل مع العالم، وعرفت أنهم غير مهتمين، فلا أحد منهم فضولى إلى الدرجة التى تثير حماسه لمعرفة ما يدور خارج حدود «ماساى مارا».
لم تزرهم التكنولوجيا. فلا يزالون يشعلون النار بحكّ الأحجار وأغصان الشجر، ويعيشون من الزراعة ورعى الأبقار والأغنام.
وكى تعرف شخصًا من قبيلة الماساى، لا بد أن تكون فى جسده علامة مميزة، خدوش وجروح مستديمة فى أماكن مختلفة من أجسادهم، وتحديدًا الوجه واليد، ويقال إنها كلما كثرت زاد جمال الشخص.
وما يضيف إلى جمال المرأة أيضًا إزالة سنتين من أسنانها السفلية، ويا سلام لو أصبح ثقب أذنها كبيرًا جدًا، يمكن أن تنافس فى مسابقات ملكات الجمال.
بالقرب من ماساى مارا، ظل أسد يطارد غزالة حتى اصطادها ووزَّعها على أصدقائه، تحوَّل المأتم إلى لحظة سعيدة بين جماعة الأسود. تكرَّر الأمر أكثر من مرة، نمر يطارد حمارًا وحشيًا هرب منه، لكن سائق السيارة قال لنا إنه «سيلاحقه حتى يفترسه».
إلى جانب الحياة البرية، يعيش البشر، أفراد قبيلة ماساى مارا، حياة ليست أقل احتياجًا وفقرًا، أبسط الخدمات تعتبر بالنسبة لهم معاناة، يعبرون طريقًا طويلًا لملء جالون مياه من أقرب نهر أو بحيرة، وأغلب بيوتهم لا تحتوى على حمَّامات، يمكن أن تقضى حاجتك فى أى ركن آمن، الطرق مظلمة، لا أنوار ولا إشارات ولا قواعد مرور، والسير ليلًا خطر، لا مستشفيات كبيرة.. بعض البيوت الصغيرة تقوم بدور المستشفيات. إحدى الأسر دعتنا إلى زيارة سريعة، وحين وصلنا اكتشفنا أن بيتها الذى يقع داخل غابة، هو شجرة ضخمة يعيشون حولها، وبجانبهم بحيرة صغيرة. هنا تدور أحداث حياة كاملة لعائلة إفريقية سعيدة.
عائلة أخرى تعيش داخل بيت متقدم قليلًا، أقمت معها، وفى إحدى الليالى، سُمِع صوت أسد، قلنا إنه لن يكون أسدًا حقيقيًا، بالتأكيد خدعة! لكن فُزعنا وجدناه أسدًا يحوم حول البيت.. أسد حقيقى! أخبرنا صاحب البيت، جيف، بأن «هذا حدث طبيعى يجرى يوميًا داخل ماساى مارا، ولا داعى للقلق، الأسود هنا أليفة، وإذا توحَّش يمكننا التعامل معه».
اندهشت مما قاله، ولم أبد أى استفسارات خوفًا وقلقًا من الوحش الهائل الذى يمكن أن يأكلنا كوجبة عشاء خفيفة، وفق روتينه اليومى، ثم خلدنا للنوم، الذى لم أتصور أنه سيأتى أبدًا.
نمنا، وفى اليوم التالى، استيقظت على صوت أسد! أنا بحلم صح؟.. تساءلت ولم أتجاوز دهشتى من الموقف الأسوأ الذى أمر به فى إفريقيا، وفتحت عينى لأجد الأسد يجلس بجوار باب الغرفة الشفَّاف المطل على الشارع، أغمضت عينى حتى أغوص فى النوم مرة ثانية، على الأقل حتى يغيب الأسد.
مرت عشر دقائق، ولم يفارقنى الوحش المرعب الذى افترضت أننى وجبته المقبلة، لكن كل شىء انتهى، والأسد اختفى كى أبدأ يومًا جديدًا من الرعب فى ماساى مارا.

بروندى