رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"سيدة البحر".. ليس بالصورة الجيدة فقط تُصنع الأفلام


بالرغم من فوز الفيلم السعودي "سيدة البحر" للكاتبة والمخرجة الشابة شهد أمين بعدة جوائز مهمة، مثل "جائزة النقاد" في مهرجان فينيسيا، وجائزة "التالينت البرونزي" من أيام قرطاج السينمائية؛إلا أنالفيلمتم عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ41 التي تحمل اسم الناقد الكبير الراحل يوسف شريف رزق الله من ضمن أفلام برنامج "آفاق السينماالعربية"، لا يحمل من المعنىالكامل سوى صورة سينمائية أجادت أمين صناعتها؛ ولكن ليس بالصورة الجيدة فقط تُصنع الأفلام.
يدور الفيلم حول أسطورة "البحار" التي يعتقد فيها معظم سكان الخليج ممن مارسوا مهنة الصيد، حيث تُعّد مهنة الصيدأو تلقي الرزق من البحر هي المهنة الوحيدة قبل اكتشاف البترول، وتحول هذا المجتمع البحرىإلى العمل في استخراج النفط. وقتها، كان البحر صانع الأرامل والثكالى، مما دفع صناع السينما إلى استلهام حكايات البحر لصناعةأفلامهم، أقربهم لذاكرتي فيلم "بس يا بحر" للكويتي خالد الصديق عام 1972،وغيره من الأفلام الخليجية الأوّلية، تلك التي اعتمدت على تسجيل مشاهد وحكايات من اليئة المحيطة بهم.
بهذا الشكل يبدوأن فيلم "سيدة البحر" لم يأت بجديد على السينما الخليجية أو السعودية على وجه الخصوص، من بعد حادثة اقتحام وحصار الحرم في العام 1979 التي قادها جهيمان العتيبي على رأس مجموعة من المتشددين،حيناستولىأكثرمن 200 مسلحعلىالحرمالمكيمدعينظهورالمهديالمنتظر. كانوا يعتقدون في نهاية العالم عندما وجدوا عروضًاللأفلام في نوادي السعودية الثقافية، والتي عرفوها من خلال الموظفين الأجانب العاملين بشركة كاليفورنيا العربية للزيوت.

التمرد على الأسطورة
جاء فيلم "سيدة البحر " كصرخة لفتاة متمردة على تقاليد قريتها وأساطيرها التي تحتل عقولهم، فلدينا تلك الفتاة "حياة"،المراهقة الجميلة ذات الشعر الطويل المموج والملامح العربية السمراء، والتي قامت بدورها الطفلة"بسيمةحجار"، حيث نبدأ لحظات الفيلم في مشهد أسطوري لتقديم القربان للبحر، والذي يشبه إلى حد بعيد تقديم أجمل نساء مصر للغرق في أحضان الإله حابي الذي يُمثّل النيل،أوكإسماعيل الذبيح الذي يُعّد أول قرابين الديانات الإبراهيمية، فيما تعلو موسيقى صاخبة تُعلن عن الأضاحي من الأطفال الرضع؛ ولكن فجأة يعود والد "حياة" لانتشالها من البحر بعد إلقاؤها فيه بثوان معدودة؛ ومن يومها، وبعد خوض تلك التجربة، تتمرد "حياة" على أساطير قريتها، خاصة بعد أن تلد أمها صبي مُعفى من القربان، فـ"سيدة البحر" تبغي الصبايا دون عنهن.
يمتنع "الرزق" عن القرية، ويجف البحر، ويقع السكان في مجاعة يُرجعونهاإلى تأخرهمفي التضحية بقربان بشري لسيدة البحر. تتطوع حياة ل‘غراق نفسها في البحر تلبية لرغبة السيدة وأملًا في الصيد الوفير الذي يعتمد عليه سكان قريتها جميعًا في الغذاء والتجارة وغيرها من أنشطة حياتيةأخرى؛ لكن تعود "حياة"إلى قريتها وهي تحمل إحدى كائنات البحرالأسطورية المتمثلة في جسد فتاة بذيل سمكة (عروس البحر)،فبدت وكأنها أتت بصيد ثمين لقريتها، حيث تم تقطيع الجسد وطهيه وتوزيعه على المنازل المحيطة. جاء هذا المشهد كإثبات لتمرد الفتاة وتمرير رسالة ضمنية بأن هذه التي تخافونها وتضحون باطفالكم الرضع من أجلهم قد سقطت وأتيت بجسمانها لنأكله جميعًا كما فعلت بالأطفال الرضع!

جدلية الموت والحياة في أسطورة كائنات البحر
فكرة الفيلم غارقة في الفانتازيا إلى حد بعيد، حتى أنها لم تمزج الواقع بالفلسفة، ولكن كانت أقرب للأسطورة التي كان من الممكن أن تستكمل المخرجة فكرتها عن التحرر والتمرد إلى نقطة اصطياد حياة للكائن المائي، ولكنها فضلت أن تختار إطالة مشهد الذروة / ANTICLAIMEX لتكرر مرة أخرى مشهد القربان للفتيات اليافعات لمرة ثانية بعد أن جف البحر. استطاعت المخرجة توضيح وجهة نظرها وقضيتها في دعم نساء بلادها في تمردهن حتى لحظة انتصار "حياة" في اصطياد الكائن المخيف الذى ابتلع أطفال قريتها في إشارة لانتصار تمرد الفتيات على أساطير مجتمعهن.
أروع ما في فيلم شهد أمين هو الكاميرا المنطلقة في أنحاء موقع التصوير الذى تم في العاصمة الأردنية عمان، حيث صورة رائقة ونظيفة بدون شوائب -إن جاز التعبير- وكادرات مرسومة بقلم الفحم، بدت وكأنها عندما يمسك الرسام بجانب القلم ليُضفي الظلال، فقد كانت كاميرا المخرجة البارعة تكاد تقترب من الكاميرات العالمية إلا قليلًا.
جاءت "حياة" في بداية مبشرة لممثلة قديرة ومتمكنة في أولى سنوات مراهقتها، استطاعت أنتتحمل مسؤولية الفيل وصورته، باللهجة المصرية لصناع الأفلام "تشيل الفيلملوحدها"بينما الآخرين مساعدين لها، لتكتمل رسالتها الموجهة للعالم عن رفض الخرافة، ورفض تهميش المرأة والتضحية بها من أجل رجال القرية العاملين بالصيد لإطعام باقي السكان؛ فمن غير المنطقى أن تعتمد قرية بأكملها على التضحية بالرُضع والفتيات للبحر في سبيل كسب الرزق.