رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبو «الكابوهات».. قصائد من ديوان فؤاد نجم المجهول عن الأهلي والزمالك

فؤاد نجم
فؤاد نجم



كان فهمي عمر كلمة السر في حياة أحمد فؤاد نجم.
سعى نجم إلى العمل في وظيفة حكومية كي يؤمِّن حياته لأطول فترة ممكنة بعدما فارق حياة الملجأ التي أوقعت عبد الحليم حافظ في طريقه، لكن «طول لسانه» وفَّر له نصيبًا كبيرًا من الكراهية والحِيَل والمؤامرات، التي أدارها زملاءه حتى «جرجروه» إلى السجن.
لنعد إلى الوراء قليلًا.
عام 1959، ذهب نجم إلى مقر عمله في ورش النقل الميكانيكي بهيئة السكك الحديدية، وجد قوة من البوليس في انتظاره برفقة محضر ألقى عليه تفاصيل اتهامه بالتزوير، وكان بالفعل مزورًا وفق اعترافه فيما بعد، فاستسلم، وقضى في السجن 3 سنوات.
يحكي في مذكراته، أنّ ما فعله كان جريمة فعلا، لكنه شيئًا عاديًا ويحدث يوميًا، والسبب الحقيقي وراء القبض عليه أنّ «بعض المسئولين سرقوا معدات من الورشة، وعندما اعترضتهم اتهموني بتزوير استمارات شراء».
وفي السجن، بدأ كتابة خواطره حتى ينال شعبية وسط المساجين، وكانوا مدمني كرة قدم، يدخلون في نقاشات ومناظرات ومباريات كلامية حول الأهلي والزمالك، وهو الأهلاوي العتيد، المفتون بلاعبي النادي الأحمر، وجد فرصته لصناعة مجد شخصي داخل السجن بأن يكون بطل «مشاجرات المشجعين» حتى حصل على لقب «شاعر مباريات الأهلي والزمالك».
وبدأ يكتب قصائد كروية، «يمسخر» الزمالك ويهلل للأهلي ويؤلف هتافات للماتشات، قبل أن يصبح سياسيًا، ويستبدل هجاء اللاعبين بشتيمة الرؤساء.
في السنة الأخيرة له في السجن، اشترك في مسابقة «الكتاب الأول» التي ينظمها المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون، فاز بالجائزة الأولى وصدر ديوانه الأول «صور من الحياة والسجن» بمقدمة للدكتورة سهير القلماوي، حتى قضى مدة عقوبته وأصبح «على الأسفلت»، فتوسَّطت له ليحصل على وظيفة في الإذاعة.
هناك، يقابل فهمي عمر، وينشر ديوانيه الثاني، والثالث.
كان الديوان الثالث - الذي صدر عام 1965 - بعنوان «حكاية الأهلي والزمالك»، وأسقطه نجم - عمدًا - من الأعمال الكاملة للفاجومي، الصادرة عن دار «ميريت» بختم «الطبعة الشرعية الوحيدة»، وبقيت قصائده مجهولة، ومنسيَّة.
أسأل أغلب مريدي نجم عن نسخة منه، فلا أجد ردًا، إمَّا أنهم لا يعرفون عنه معلومة واحدة، أو أنهم يعرفون عنوانه ويبحثون عنه حتى الآن.

صورة ذات صلة
أهدى الديوان إلى فهمي عمر.. وفسر توقفه عن قصائد الكرة بـ«غياب النجوم»
تحوَّل الفاجومي بعد نكسة 1967 إلى شاعر سياسي، تاركًا وراءه عشرات القصائد في الكرة والحياة، كانت الهيكل العظمي لدواوينه الثلاث الأولى «صور من الحياة والسجن»، و«حكاية الأهلي والزمالك»، و«فرحوا العناتيل».
انقطعت علاقته بكرة القدم بسبب «غياب جيل كامل من نجوم الملاعب».
وينقل كتاب «المثقفون وكرة القدم» للكاتب الصحفي أشرف عبد الشافي تبرير نجم لهربه من جنة الكرة إلى نار السياسة بأنه «مع هزيمة 5 يونيو 1967 انقطعت المتعة وغاب جيل كامل من نجوم الملاعب أذكر منهم المايسترو صالح سليم، وسيد الضظوي، ورفعت الفناجيلي، وحمادة إمام، ونبيل نصير، وعصام بهيج، وسمير قطب، ورضا، وشحتة، والعربي، وعادل هيكل، ورأفت عطية، وطه إسماعيل، ورغم وجود اللعبة وشعبيتها خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، إلا أن الصحوة الكروية في الشارع لم تعد كما كانت إلا بعد الوصول إلى كأس العالم».
يهدي نجم «حكاية الأهلي والزمالك» إلى فهمي عمر، ويقول في مقدمة الديوان أنه هو صاحب الفكرة: «ذات يوم كنت عنده في مكتبه بالإذاعة، وإلى الذين لا يعرفون الأستاذ فهمي أقول إنه عندما لا يكون مشغولًا، وهذا لا يحدث أبدًا، تجده يتدفق بالحديث كما يتدفق النيل القادم من الصعيد (بلده) أيام الفيضان، وسألني: لماذا لا تكتب عن كرة القدم يا فؤاد؟.. فترددت، لكني تحمست.. وقررت أن أكتب ديوانًا كاملًا في كرة القدم».
يستدعى نجم خواطره الكروية في السجن، ويبدو متحمِّسًا لاسترجاع علاقته القديمة بمدرجات الأهلي، وإلقاء الصواريخ على جمهور الزمالك، ويختتم المقدمة: «كل ما أرجوه هو أن يفهم القارئ أنني بهذه المحاولة أعتقد بأنني ساهمت بطريقة ما في العمل على الارتقاء بهذه الرياضة الشعبية المحبوبة التي أرجو لها كل تقدم وازدهار، وأعد القارئ بإعادة المحاولة مرة أخرى».
صورة ذات صلة

تخلى عن تعصبه للأهلي بسبب الإذاعة.. وتأثر في أشعاره الأولى ببيرم التونسي
تأثَّرت لغة نجم في كتابة الدوين، وهو يشقّ طريق الشعر، بأسلوب بيرم التونسي، ولحسابات تتعلّق بالإذاعة المصرية، كان مجبرًا على أن يكون هادئًا، لا يقول كل ما في نفسه كأهلاوي قادم من مدرجات الدرجة الثالثة، وهو ما بدا في قصيدة «حكاية الكورة»:
حكاية الكورة فى بلادنا
ولا الروايات
صحايف تحكى أمجادنا
مع الكبوات
وفيها نصر أجدادنا
علي الخواجات
وفيها درس لولادنا
بنين وبنات
تحمل قصيدة أخرى عنوان «أجمل صوت»، يحاول نجم أن يتحرَّر في هذه القصيدة من السَرْد التعليمي، الذي يجبره عليه العمل لحساب إذاعة حكومية، إلى براح الشعر الرومانسي، فيقول:
يا أجمل صوت ملا وداني
نغم ورنين
جمال الوصف خلاني
نسيت أنا مين
عشقت الكورة في ثواني
ولا المجانين
تروح الماتش تلقاني
مع الملايين
ولما اللعب يملاني
جماله حنيني
ألاقي حنين بكاني
يا بدر الدين
يا أجمل صوت ملا وداني
نغم ورنين
و«بدر الدين» هو بدر الدين السيد، أحد المشجعين المشاهير في الستينيات، الذين لم يتجاهلهم نجم في دواوينه حتى أنه كتب مباراة شعرية ساخنة بين جورج سعد، وطلبة صقر، كبيري مشجعي الزمالك والأهلي في الستينيات كـ«حوار ون تو» يشبه ما يجري على أرض الملعب:
جورج «زمالك»..

هاتوا الدفاتر تنقرا
علشان تشوفوا اللى جرا
والأهلى خيبته مسجلة
وحاجة آخر مسخرة
م الكاس قوامك صيفوه
والدورى منه ضيعوه
ومشجعينه خلاص فاتوه
وكل يوم بيجيب ورا».
طلبة صقر «الأهلي»..
«مال العتاولة مصهللين
وفى العناتلة شمتانين
ده مكنش دورى من سنين
خدتوه أونطة وهنكره
جمهورنا ما فقدش الأمل
ولا بيقعش إلا الجمل
والأهلى لو صفه اكتمل
حيخليها لكم مجزرة
ونجيب الدفاتر تنقرا».
وتنتهي المباراة الشعرية، التي نسجها الفاجومي، بين الاثنين بصاروخ موجّه من جورج:
يا طلبة بطل هلوسة
نادي الزمالك مدرسة
هي الحكاية ملحَّسة
ولا الهزيمة مأثَّرة
ويرد طلبة:
لو اتغلبنا منكو
يبقى الكلام من حقكو
وبكرة تلقوا وعدكو
من الفانلة الأحمرا

نتيجة بحث الصور عن فؤاد نجم

كتب ألغازًا عن النجوم الكبار.. ووضع الحل في «الصفحة الأخيرة»

من قصائد ديوان «حكاية الأهلي والزمالك» قصيدة أخرى بعنوان «يا كباتن مصر» اضطر فيها إلى أن يكونَ محايدًا، ولا يعلن انحيازه الصريح إلى أي فريق، حتى تناسب دعم المنتخب الوطني:
يا كباتن بلدي يا حبايبنا
يا شموع بتنور ملاعبنا
ع الأرض الخضرة العربية
ما تخلوش غالب يغلبنا
إن كان ع الفن احنا بلاده
واحنا اللي بنصنع أمجاده
وإن كان ع المجد احنا ولاده
والنصر مابيسبش ركابنا
ومن ضمن الديوان «فوازير» للمستمعين كي تخلق جوًا تفاعليًا في الإذاعة، كانت الفزورة تقرأ كجملة شعرية سريعة عن صفات لاعب، وتنتظر رسائل المستمعين الذين يقولون من هو؟.. وإذا لم يتعرف عليهم القراء فلينظروا الحل في الصفحة الأخيرة من الديوان.. ومن بين «الفوازير»:
أنا البعبع أنا العفريت
أنا النملة اللي هزمت فيل
ولو خزنت ولا مشيت
تكهرب سنجتي العناتيل
وليا في غلبهم حواديت
بتتغنى ولا المواويل
ووصف «العناتيل» للاعبي الأهلي مأخوذ من الناقد الرياضي، نجيب المستكاوى.
يخترق نجم المدرجات، من جديد، ويكتب هتافًا عامًا لجمهور الأهلي:
يا أبو الفانلة الحمرا
يا أهلاوي يا أصيل
خلي الإيدين السمرا
ترفع لك المناديل
وياخدنا النصر في غمرة
ننشد لك المواويل
وفي هتاف مقابل لجمهور الزمالك، يقول:
يا محني ديل العصفورة
زمالك هي المنصورة
وح نفضل دايمًا في الصورة
والتالتة ويا المقطورة
ح يفنوا على نغم الكورة
يا محنِّي ديل العصفورة

نتيجة بحث الصور عن فؤاد نجم

عاد للتشجيع بسبب «الصحوة»: « زي اللي مشافش كورة من 50 سنة»
كيف كان الفاجومي مشجعًا للأهلي؟
يعتبر أحمد فؤاد نجم نفسه واحدًا من جمهور الدرجة الثالثة، ويرى، وفق كتاب «المثقفون وكرة القدم»، أنّ «هؤلاء وليس الرجال الشيك الجالسين في المقصورة هم متعة كرة القدم الحقيقية، فالغلابة الذين ينتظرون موعد المباريات كي يعيشوا لحظات متعة وفرحة وتصفيق وزغاريد أحيانًا، ومن مدرجاتهم تخرج الآهات والصرخات والأغاني التي تتغزل في الفريق واللاعبين الموهوبين».
ومن اللاعبين الموهوبين، الذين أصبحوا أصدقاء مقربين لنجم، حمدي نوح، نجم نادي المقاولون السابق.
ويقول نجم عن متابعته للمباريات، التي كانت طقسًا يوميًا لمتعته الكبرى بتعليق الكابتن محمد لطيف: «الكورة واكلة دماغي وباتفرج على ماتشات عمال على بطال زي اللى ماشافش كورة من 50 سنة».
يمكن أن تفسِّر شغف نجم بالكرة من جديد بـ«الصحوة الكروية» في مصر، كما جرى قبل النكسة، فأصبحت الكرة مسيطرة على الشارع المصري منذ التسعينيات بفضل الجوهري: «الكابتن محمود الجوهري فكر الناس بالكورة تاني، ووصلنا معاه لنهائيات كأس العالم في إيطاليا سنة 1990، وإحنا اليومين دول في صحوة كروية، ولسه بنقول تاتا خطى العتبة، وها هى الإثارة تعود إلى الدوري المصري، ودي أهم عناصر المتعة والإثارة في المجنونة بنت المجنونة كرة القدم، اللعبة الشعبية الأولى في العالم رغم أنف الألعاب الأرستقراطية، وأنا اعترف بأن الكورة لسه واكلة دماغي، وباتفرج على ماتشات عمال على بطال زي اللي يكون ماشافش كورة من 50 سنة مثلًا، وأي حد بيتفرج على الكورة المصرية دلوقتى لازم حيشم عطر أبوتريكة وبركات والحضري وحسني عبدربه وشيكابالا وعماد متعب وعمرو زكي، لكن أنا رأيى إن دول جيل ذهبى على المستوى المحلي والقاري، دول مجرد بداية لإبداع مصري قادم بقوة في إمبراطورية (فيفا)».
لا يكتب نجم قصائد تجارية للكرة، لكنه ينسج أشعارًا في محبوبته، التي ظلَّ مجبرًا لفترات طويلة - بحكم السياسة والسن والسجن - على فراقها، وظلّ الأهلي الحب الأخير في حياته.. نادي الناس الطيبين، الذين كان واحدًا منهم.