رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السقا مات.. يوسف السباعى يحكى فلسفة الموت

جريدة الدستور

كان منظر البلح كفيلا بأن يجبر سيد على النسيان لوصية أبيه المعلم شوشة الدنك: «السقا لازم يكون شريف وعينه مليانه». انتهز سيد فرصة انغماس جاب اللة حارس السرايا فى الصلاة وتأخير والده.. ففكر فى الصعود إلى هذا الكنز الذى سلب عقله.. ولم يتذكر هذه الوصية إلا حين سقط من أعلى النخلة على عنق جاب الله.. مما جعل والده يقرر عودته إلى الكتاب.

إلا أن دموع سيد التى أتقنها باحتراف وقفت حائلا أمام هذا القرار. ولكنه يحب البلح فماذا يفعل.. لابد من حيلة أخرى.. وهى ألا يعتلى النخلة ولكن يرميها بالأحجار حتى تسقط عليه رطبها جنيا.
خطط سيد ونفذ غير أن ذاك الحجر الملعون خيب آمال المسكين.. فانحرف عن مساره الصحيح.. لا تعرف بارادتة أم بفعل الشيطان الرجيم.. ليتجة نحو إحدى نوافذ السرايا فيهشم زجاجها.
خرج جاب الله مفزوعًا فركض سيد نحو باب الفيلا فاصطدم بوالده.. فسألة على فين ياسيد فقال على الكتّاب.

حتى الكُتّاب لم يخل من مقالب سيد.. ولم ينج شيوخة من شقاوته.. صبيحة أول يوم ذهب فية سيد إلى الكتاب زقزقت عصافير بطنه.. للطعمية السخنة.. ولكن صاحب الكشك الموجود أمام الكُتاب رفض وأبى وأصر ألا يلبى طلب عصافير بطن سيد.. والشقى لا يملك نقودًا.. فعلى التو أعلن عن حريقة خلف الكُتّاب.. ففر الجميع مذعورين بينما اقتنص هو طاسة الطعمية كلها.

خرج سيد من الكتاب فوجد والده فرغ من توصيل المياه إلى المنازل.. متوجهًا إلى مسمط الحاجة زمزم، تلك المرأة البدينة التى تشبه الكشك الذى كان بداخله سيد منذ دقائق.. أتت لهم بالكوارع.. وبعد لحظات علا صوت الزعيق: نعم ياروح أمك..ولا ياجاد قلعه هدومه وخليه يطلع من هنا ملط. إنت فاكرها تكية ياروح خالتك.

نهض شوشة بسرعة ليزيح يدا المدعوة زمزم من على رقبة الرجل الهرم.. ثم دفع ثمن الوجبة التى طفحها الوافد.. والذى لا يعلم بواطن الأمور.. وكاد أن يدفع حياته ثمنًا لهذه المجازفة.

ذهب شحاتة أفندى شبعانا مهزومًا إلى حال سبيل يحمد الله أنه نجا من هذا الوحش الكاسر. وبهد يومين عاد شحاتة إلى شوشة الذى استغرب هذه الزيارة.. كما استغربتها أم آمنة الكفيفة المبصرة.. وأم آمنه هى جدة سيد.. التى كرهت الضيف فى بادئ الأمر إلا أنها شعرت بارتياح بعد أن سمعتة يقول: خد يا معلم شوشة أدى الأربع قروش عمرى ما حسيت بدين فى رقبتى زى دينك.. خرجا سويًا إلى المقهى عرف شوشة أن الرجل بلا مأوى ولا يملك إلا تلك الصرة التى يقول إن بها عدة الشغل.

مرت على المقهى إمراة ممتلئة هى من النوع الذى يحبة شحاتة فأخذ يردد: يا بتلو يا أبيض إنت.أموت أنا فى عسل النحل، إلا أن رجلا كان يراقبه بشدة.. إنه شرف الدباح والحقيقة أنه ليس شرفا ولا دباحًا إنه قواد..

اختفى شحاتة لأيام ثم عاد يوما مرتديا بذلة سوداء كانت مفاجأة لسيد وشوشة. من أين أتى بها وأين جلابيته المهلهلة. إتضح الأمر حين قال شحاتة: أنا يا معلم شوشة بمشى قدّام الجنازات والبدلة دى عدة الشغل، إذن هى التى كانت داخل الصرة. تشاءم سيد وشعر أن نذير الموت قد صاحبهم.

قال له شحاتة: إن الموت شئ عادى كمثل أى شىء بل يكون أهون فى حالات كثيرة.

مرت أيام والتقى شحاتة بشرف الدباح واتفقا على ملاقاة عزيزة نوفل ذهب إلى الجزار واشترى «لحم وكلاوى» وأعدهما فى بيت شوشة، أكل واسترخى لكى يدخل معركة عزيزة نوفل بعد قليل دخل عليه شوشة ليوقظه إلا أن الرجل مات.

فى اليوم الثانى قام شوشة بارتداء بدلة شحاتة أفندى.. وأصبح من فصيلة «لفندية» عاير الأطفال سيد بمهنة والده الجديدة وأخذوا يقولون له: أبوك السقا مات يمشى ع الجنازات.. حزن سيد وطلب من والده أن يكتفى بمهنة السقا.. وافق شوشة وفى اليوم الثانى وقع البيت على شوشة ومات.. ليمشى سيد أمام الجنازة ساقطًا فى البدلة الجنائزية ويتلو قوله «والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون» صدق الله العظيم.
تمت