رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيف «شارب».. طريقة إعداد الثورة





أما عن «الشيف» أو كبير الطباخين فهو دكتور جين شارب، أستاذ العلوم السياسية الأمريكى الذى يقدم لنا فى كتابه «من الديكتاتورية إلى الديمقراطية»، طريقة إعداد الثورة، بحيث يتم استثمار الغضب الشعبى قبل أن يصبح وعيًا وتفريغه وحرفه عن الأهداف الحقيقية، لكى تصب نتائج الثورات فى صالح القوى الرأسمالية مجددًا.
الأستاذ جين شارب أنشأ عام ١٩٨٣ مؤسسة «ألبرت أينشتاين» لدراسة النضال السلمى كوسيلة للتخلص من الظلم فى العالم، إلا أن المفكر الفرنسى الشهير تييرى ميسان، صاحب كتاب «الخدعة الرهيبة» الذى يشكك فى الرواية الرسمية لأحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، فضح دور مؤسسة شارب، وكتب أن عملها إعداد قادة الانقلابات لحساب المخابرات الأمريكية. ومع ذلك فإن هناك ضرورة للتعرف إلى ما يطرحه طباخ الثورات الملونة فى كتابه لكى نعرف ونتجنب ما ينصح به بالحرف.
بداية يعتبر جين شارب أن القضية الأساسية فى عالمنا اليوم هى مواجهة الأنظمة الديكتاتورية، التى يدرج فيها كل البلدان الشيوعية سابقًا، والصين وكوريا الشمالية وبورما والسودان، أما إسرائيل فإنها تقع عنده فى خانة البلدان الديمقراطية. من ناحية أخرى هو يفهم الديكتاتورية باعتبارها غياب التعددية والتمثيل النيابى والصحف المعارضة، لكنه يعجز عن تصنيف حالة مثل فرنسا بها كل مظاهر الديمقراطية المذكورة، لكنها ساعة الجد تقمع المتظاهرين أصحاب السترات الصفر بوحشية أواخر عام ٢٠١٨. وفى النهاية فإن طرح الشيف شارب موضوع الديكتاتورية لا يتجاوز سطح الموضوع، مثلما لا يتجاوز سطح المسألة فهمه للديمقراطية التى يحصرها فى الحقوق السياسية فحسب، وماذا عن الحقوق الاجتماعية؟ حق التعليم والمسكن والعلاج والعمل وغير ذلك؟ تلك الحقوق لا نصيب لها من فهم الشيف شارب، لأن الحقوق الاقتصادية ستقود شارب مباشرة إلى العلاقة بين فقر الشعوب ونهب الاستعمار الأمريكى لثروات تلك الشعوب. إذن فإن وصفة شارب لإعداد ثورة بأسهل الطرق تبدأ باستبعاد الحقوق الاجتماعية، ثم تؤكد استبعاد العنف كوسيلة كفاحية، مع أن تاريخ كل الشعوب والثورات يؤكد أن المستغلين والطغاة لم يتركوا مقاعدهم إلا بالقوة. هكذا ينزع شارب عن الثورة أهدافها الحقيقية، ثم ينزع وسيلتها الحقيقية، فلا يتبقى أمامنا سوى الثورات البرتقالية التى تستثمر الغضب الشعبى قبل أن يتحول إلى وعى لتصب نتائج الاحتجاجات فى نظم تخدم بلافتات جديدة مصالح الاستعمار العالمى.
ويرسم الشيف شارب بالتفصيل خطة القيام بثورة وإعدادها، عبر ما يسميه «التحدى السياسى» الذى يستخدم الاحتجاجات والإضرابات واللا تعاون والمقاطعة وسحب الولاء، وغير ذلك مما يعتبره شارب أسلحة نفسية واجتماعية واقتصادية لدى المواطنين والمنظمات المدنية، ويحدد مقادير إعداد الثورة قائلًا إنها يجب أن تبدأ بأعمال رمزية مثل وضع الزهور على أماكن ذات أهمية، أو الدعوة للصمت العام لبضع دقائق، أو مقاطعة قصيرة للدروس يقوم بها الطلاب، ثم يتحول عبء النضال بالتدريج إلى مواقع أخرى، كأن يقوم عمال السكك الحديدية بإبطاء حركة القطارات، بحيث يكتسب ذلك النضال القوة، بهدف زيادة الشلل السياسى، وفى النهاية تفكيك الديكتاتورية نفسها. لكن شارب المولع بتفكيك الديكتاتورية لا ينطق بحرف لا من قريب ولا من بعيد عن حقيقة أن أمريكا هى أكبر من دعم الديكتاتوريات وأمدها بكل أسباب البقاء، كما أنه يغفل تمامًا التعارض بين أهداف الشعوب فى التحرر واستثمار ثرواتها والاستغلال الأمريكى لتلك الشعوب، بالقوة والهيمنة والشركات العابرة للجنسيات. يحدثنا الشيف شارب عن أن إسقاط الديكتاتورية حلم عظيم، لكن شرط ألا يتجاوز ذلك الحلم حدود الإصلاح السياسى وزخرفة الواجهة، ومثلما عجز شارب عن تفسير القمع الفرنسى للمتظاهرين فى بلد يفترض أنه ديمقراطى، فإنه عجز أيضًا عن تفسير أسباب الحروب التى أشعلتها أمريكا التى يفترض أنها بلد ديمقراطى، بدءًا من تدخلها العسكرى فى ١٩٥٠ ضد كوريا الشمالية، وتدبيرها انقلابًا عسكريًا فى جواتيمالا عام ١٩٥٤، ولا عن الدور الأمريكى القذر فى فيتنام بين ١٩٥٦ و١٩٧٥ الذى راح ضحيته مليون ومائة ألف قتيل فيتنامى، أو الانقلاب على سوكارنو فى إندونيسيا عام ١٩٦٨، أو تنظيم انقلاب دموى فى تشيلى فى مواجهة الانتخابات الديمقراطية عام ١٩٧٣، ومشاركتها فى الحرب على مصر عام ١٩٦٧، ثم وقوفها المستمر ضد الشعب الفلسطينى، وعدوانها على ليبيا فى ١٩٦٨، ولا ينطق بحرف عن الغزو الأمريكى للعراق فى ٢٠٠٣، وهذا لأن قضية الصراع بين الشعوب والاستعمار الأمريكى وحلفائه لا تقع ضمن وصفة الثورة التى يشرح لنا الشيف شارب طريقة إعدادها.