رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في ذكراه.. طه حسين سلك منهجًا يحترم العقل وينحى الحواس

 طه حسين
طه حسين

يعد طه حسين الذي حلت ذكرى ميلاده أمس الأول، أحد أبرز الكتاب المصريين الذين مارسوا منهجية الشك الديكارتي، من خلال تجربة كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي أحدث جدلًا في ثلاثينيات القرن الماضي.

لاقى كتاب "في الشعر الجاهلي" معارضة شديدة لأنه يقدم أسلوبًا نقديًا جديدًا للغة العربية وآدابها، يخالف الأسلوب النقدى القديم المتوارث.

هذه المعارضة قادها رجال الأزهر، الذين اتهموا طه حسين في عقيدته، وتم سحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه، وقررت وزارة إسماعيل صدقى باشا عام 1932، فصله من الجامعة كرئيس لكلية الآداب.

على إثر فصل طه حسين والهجمة التي حدثت على الكتاب، احتج رئيس الجامعة وقتئذ أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته، لكن لم يعد طه حسين إلى منصبه إلا عندما تقلد الوفد الحكم عام 1936.

كان من أبرز المعارضين لما ورد في الكتاب، مصطفى صادق الرافعي، في كتابه "تحت راية القرآن" ومحمد لطفي جمعة في كتابه "الشهاب الراصد" والشيخ محمد الخضر حسين في كتاب "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، محمد فريد وجدي في كتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، محمد أحمد الغمراوي في كتابه "النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي".

المنهج الفلسفى العقلانى الذى استقاه طه حسين من رينيه ديكارت يعتمد على مبدأ الشك أو الكوجيتو وهو المبدأ الأول في كل فلسفة ديكارت، الذي أثر في كل أنواع الفلسفة الحديثة، بالإضافة إلى الأدب والفن والعلوم الاجتماعية والدين، فهو منهج بحثي للوصول للحقيقة، يحترم دور العقل وينحي دور الحواس، لأنه يراها خادعة وتشتت البحث المنهجي العلمي في الوصول إلى الحقيقة.

يقول طه حسين في مقدمة كتابه" في الشعر الجاهلي": إنى سأسلك فى هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة، أريد أن أصطنع فى الأدب هذا المنهج الفلسفى الذى استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء فى أول هذا العصر الحديث، والقاعدة الأساسية فى هذا المنهج هى أن يتحرر الباحث من كل شىء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالى الذهن مما قيل فيه خلوًا تامًا".

ويضيف: " منهج ديكارت هذا ليس خصبا في العلم والفلسفة والأدب فحسب وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضا، والأخذ بهذا المنهج ليس حتما على الذين يدرسون العلم ويكتبون فيه وحدهم، بل هو حتم على الذين يقرأون أيضًا، وأنا أعتبر نفسي غير مسرف حين أطلب من الذين لا يستطيعون أن يبرءوا من القديم، ويتخلصوا من أغلال العواطف والأهواء حين يقرءون أو يكتبون فيه ألا يقرءوا هذه الفصول فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحرارا حقًا".

تعني الفقرة السابقة أن طه حسين ربط بين منهج ديكارت وبين إفلات الباحث ليده من القيود والتعامل بحرية تجاه البحث والاستدلال دون عوائق فكرية أو رهاب اجتماعي ومآزق دينية.
يقول طه حسين "شككت في قيمة الأدب الجاهلى، وألححت في الشك. وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًا، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًا، لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى. فالشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن. لذلك لا ينبغي أن يُستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث. وإنما ينبغي أن يُستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله. فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذى الرمة والأخطل والراعى أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبى خازم".

الالتزام بالمنهج الديكارتي والجدال الذي وقع فيه طه حسين يجعلنا نطرح الآن سؤال:"هل نحن بحاجة إلى تطبيق المنهج الديكاري في الأبحاث الحديثة خاصة المنشغلة منها بنواحي التراث،أم أن المناهج الحديثة تجاوزت شكوكه، وهل كان تطبيق منهج ديكارت حينها موضوعيا في سياقه ؟.

يقول الباحث والصحفي التونسي شوقي بن حسن، لـ«الدستور»، إن طه حسين كان يبدو وهو في باريس وكأنه يريد التأسيس للحداثة العربية من نفس منطلق الحداثة الفرنسية في أسلوب أقرب للقياس منه كتقليد، ففي الوقت الذي عاش طه حسين في باريس كانت تتولد حداثة مستأنفة في الغرب كان تجليها الأساسي في الفنون البصرية (هذا ممكن سبب عدم تلمسها بالنسبة له لكن ماذا على بقية المثقفين، ومنهم في فترة مش بعيدة توفيق الحكيم، الذي كان واضح أنه كان يستهلك ثقافة كلاسيكية في فرنسا ويقدمها في لعالم العربي كآخر صيحات الحداثة)، لكن بالعودة لطه حسين فإنه فإنه كان يرى أيضا حداثة المعرفة في الوقت الذي كانت الفلسفة تنعطف فيه وظهرت اللسانيات الحديثة ولم ينتبه إلى ذلك ".

ويضيف بخصوص المنهج الديكارتي، فإن تطبيقه اليوم لا يتم إلا إذا استدعى الموضوع ذاته هذا المنهج مع الوعي بحدود هذا المنهج، لأنه قائم على تجزيء العالم وافتراض التبسيط فيه، وهي فرضية نسفت من فرنسا ذاتها بتأثير نيتشه أساسًا، مثلًا ادغار موران جعل من ديكارت عدوه وأطلق فلسفته التركيبية التي تقول بتعقيد العالم، وأنه لا يمكن أن ندرس جزءا ونتغافل أن هذا الجزء متفاعل مع بقية عناصر العالم ففكرة عناصر العالم أصلًا تطورت".

ويتابع بن حسن:"عند ديكارت كانت يفهم العالم والانسان كأجهزة لها مركبات محدودة (جسد وروح وفكر للإنسان ومادة وجوهر للعالم) في حين دخلت عناصر أخرى مثل المعتقد والوعي التاريخي وحتى تاريخ الاشياء، يعني ملخص الحديث لا ينبغي أن نستحضر ديكارت اليوم إلا كجزء من مسار أفرز نقيضه، والعلم الحديث بما فيه العلوم الإنسانية هي في نقطة من مسار من تفاعل الأصل الديكارتي مع من نقضوه، وطه حسين يبدو لسبب من الأسباب لم ينتبه إلى أن الحضارة الغربية بصدد إفراز هذه النقض لديكارت، وأيضًا أوغست كونت الذي تأثر به أيما تأثير، وتفسيري لذلك أنه كان مشغولًا بأسئلة جاهزة جاء بها من مصر هي أسئلة النخب حينها في العالم العربي".

"لماذا تأخر العرب؟"
كان من الاسئلة الأساسية التي شغلت طه حسين بعد عودته من السوربون وقبل تقلده منصب وزير المعارف، وعلى مشاغل هذا السؤال كتب "مستقبل الثقافة في مصر" تناول فيه وضع التعليم والجامعات واستقلال الجامعة المالي والعلمي ومشكلات التعليم العالي الفنية والمالية والإدارية.

وعن سياق الحلول التى طرحها طه حسين للنهوض بالثقافة يقول بن حسن:" كانت إجابته عن مستقبل الثقافة موضعية خاصة بتلك الفترة، قال لنستعر المناهج التي أوصلت الغرب إلى ما هو عليه، وهذا تطوير لفكرة الجيل اللي سبقه ممن قالوا لنأت بالمؤسسات التي أوصلت الغرب (جيش حديث، جهاز إدارة وترسانة قوانين حديثة).

ويضيف: "أنا مختلف معه ولكني اعذره، كان هذا الممكن ربما في عصره، ثم لا ننسى أن هؤلاء كانوا يعودون فيجدون مواقع رسمية في انتظارهم فيندمجون أكثر في الرؤية العامة، وهو صار وزير المعارف أصلا،وحتى لو ما لم يتقلد منصب الوزارة كان سيكون له مكانة وزير، كم واحد كان حاصل على شهادة من السوربون في زمنه ؟".

ويستطرد بن حسن: "طه حسين ظل ينظر لريكارت وكانط كسقف، ثم صارت النخب الجديدة تنظر لطه حسين كسقف، وكان لابد من مرور 50 عاما حتى يجري تجاوز هذا السقف المزدوج!!"