رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"عصفور من الشرق".. الحكيم بين صفاء الروح ومادية الجسد

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

كان يفكر فيها طول الوقت، بل اعتقد أن وقته خلق من أجلها. لم يبال بكل هذه الأمطار الغزيرة التى تهطل عليه.. وكأنه وجد فيها ضالته. لم يبق إلا هو فى ميدان (الكوميدى فرانشيز)

وحده وتمثال الشاعر (دى موسيه). كانت الكلمات المحفورة فى قاعدة التمثال عبارة عن أشعة نورانية تخترق قلب هذا العصفور الوافد من الشرق (لا شىء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم ) نعم هى الكلمات التى سبح محسن فى بحورها، وهو يتصفح أروقة شوارع باريس وأوراق الذكريات.

ساقته قدماه كالعادة إلى مقهى أمام تياترو الأوديون.. إنه يفكر فيها حتى قبل أن يأتى إلى باريس.. بل ربما إلى الحياة. لم تقطع تأملاته غير كف صديقه أندريه حين ربت على كتفه أحسن محسن أن صديقه هبط به من السماء إلى الأرض.

طلبت منه جرمين زوجة أندريه أن يخبرها عن ذكرياته مع محبوبته التى سلبته عقله، كانت عيناه شاخصتين لأنه لا شىء إلا النظرات. ضحكت جرمين من سذاجة عصفور الشرق.. وطلبت منه أن يكون أكثر جرأة فى حبه.. وأن يذهب إلى معشوقته ليحادثها ومعه زجاجة عطر ماركة (هوبيمان) من حانوت (هوسمان ) نظر إليها وهو يقول: ياللوضاعة أن أهدى حبيبتى زجاجة عطر ثمنها عشرون فرانكا.. إنها لجديرة أن أضع قلبى تحت شباكها.

اعتقدت جرمين أنه يحب امرأة لا تسكن باريس.. بل تسكن حواديت ألف ليلة وليلة. هى طبيعة الشرق الخيال والأحلام التى لا تسكن الأرض فالغد عندنا فى الشرق له ريش يطير بينما عندهم فى الغرب استيقاظ وماكينة وتروس.

حاول محسن أن يكسر كل هذا الصمت، لا بد أن يحادثها.. دخلت محطة المترو فتبعها لكنها ضاعت وسط الزحام.. لتتركه أسيرًا لأنفاسه الملتهبة ودقات قلبه المنتفضة.

عرف ساعتها أن عمل الاستخبارات مرهق للغاية.. ولكن لا بد من المتابعة. فى اليوم التالى كرر ما فعل بالأمس.. لابد أن يسبقها إلى شباك التذاكر لكن للأسف لم تتجه حيث ذهب. كان لا بد لمحسن أن يعرف أنها تروح وتجىء يوميًا فلا بد أن يكون لديها دفتر للتذاكر.

قام بعمل دفتر هو أيضًا حتى لا تفلت منه ثانية. وفى اليوم التالى تأكد أنه سيحادثها ويخبرها بأشواقه فلا مانع اليوم من المقابلة ولا تأخير. دخل المترو وركب العربة لكنها لم تركب للأسف دفتره درجة ثالثة ودفترها درجة أولى.. غيّر الدفتر.. أخيرًا ركب معها لم يقو على محادثتها فهو لا يعرف حتى اسم من سكنته وبنت فى قلبه بيتًا كبيرًا

تبعها حيث مسكنها فى فندق (الاكاسيا ) حجز غرفة فى الدور الخامس.. من نفس الفندق لكنه لا يعلم فى أى الغرف وأى الأدوار تسكن.. هذه الشمس التى لا تغيب. صوت غناء يصعد من أسفل، ولأول مرة يأتى الجمال من أدنى.. اتجه نحو البلكونة إنها تسكن غرفة تحت غرفته.

ذهب محسن واشترى ببغاء لقنه كلمة أحبك وأنزله لها مصحوبًا بخفقات قلبه، قال الببغاء الناطق الرسمى باسم محسن أحبك ثلاثًا.. فانطلق الحب بين محسن وسوزى وطافت معه وبه وله كل شوارع باريس.
كان ينزل إليها وتصعد إليه ولكنه صعود يختلف عن صعود صديقه الروسى ( إيفانوفيتش) الذى كان يرى أن فلاسفة الغرب وأفكارهم وماديتهم جحود للطبيعة.. وأن الروح أسمى بكثير وتلك الروح تسكن الشرق. فأنبياء الله الذين هدوا العالم إلى الله والحب كانوا من الشرق..

أما فلاسفة الغرب هدوا العالم إلى الماكينة والأرقام.. كان محسن لا يكترث كثيرًا لكلام ايفانوفيش.. فعالم سوزى مختلف عن عوالم صاحبه.

وذات يوم ذهب مع محبوبته ليتناولا الغداء بأحد المطاعم.. وإذا بشاب يجلس بالقرب منهما كانت نظراته تلاحق سوزى التى ملأها الخوف، نادت على الجرسون وطلبت الجريدة ثم توارت خلفها.. وكأنها لا تعرف محسن.. فقال لها إنك تحمليننى من الأزلال ما لا أطيق، ثم تركها وانصرف.. وبعد أيام أرسل إليها خطابًا لعودة ما كان بينهما.. إلا أنها ردت عليه بعبارة "ياعزيزى كانت أيام تسلية انسها واغفر لى حماقاتى".
تمت
عن رواية عصفور من الشرق للأديب توفيق الحكيم