رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جنة "المتوسط".. كيف يعيش اليهود فى قبرص؟

جريدة الدستور

قبرص بالنسبة لليهود والإسرائيليين ليست مجرد مكان سياحى يبعد بحوالى ٤٥ دقيقة بالطائرة عن تل أبيب، وأسعاره منخفضة قياسًا بأوروبا، بل قصة مُوجعة وفصل حزين فى تاريخ اليهود، وذكريات صعبة تركوها فيها، ارتباطهم به يتجاوز فكرة أنه بلد سياحى ذى سمات مميزة.

هناك من يرى أن ثمة عاطفة ما خلف اندفاعهم بمجموعات كبيرة نحوها فى الصيف والشتاء.. وهو ما دفعنى لاكتشاف السر: هل يذهب الإسرائيليون لقبرص بدوافع عاطفية أم دوافع اقتصادية وسياحية؟. موعد رحلتى تزامن مع احتفالات رأس السنة العبرية، كانت فرصة رائعة لاكتشاف نمط وجود اليهود فى قبرص عن قرب، خاصة مع ظهور مجموعات كبيرة من السياح الإسرائيليين فى شوارع لارنكا، يتحدثون العبرية بصوت مرتفع ويستمتعون بشكل هادئ.
ولفهم «الوجود اليهودى» الحالى فى قبرص، تجب مراجعة التاريخ اليهودى فى الجزيرة، لاكتشاف هل ثمة شىء مشترك بين الماضى والحاضر لليهود هناك أم لا؟


وجودهم يعود إلى العصور القديمة.. ويحيون ذكرى اعتقال الفارين من «الهولوكست» بـ«حديقة السلام»

وجود اليهود فى قبرص يعود إلى العصور القديمة، فى القرن الثانى قبل الميلاد على الأقل، حسب الأحجار المُكتَشفة، ثم شكلوا مجتمعًا كبيرًا ومزدهرًا تحت الحكم الرومانى، وهناك ٣ معابد يهودية قديمة فى الجزيرة، فيما تم التبشير بالمسيحية بين يهود قبرص فى وقت مبكر، على يد القديس بولس الأول، والرسول برنابا.
وازدهر اليهود القبارصة كمقرضين للأموال كعادتهم، ونتيجة لذلك انقلب عليهم حكام قبرص، وصدر فى القرن الثالث عشر قانون يمنع الربا، وأُجبر اليهود فى حينه على ارتداء شارة مميزة، وفرضت ضريبة استطلاع سنوية.
استمرت الجالية اليهودية داخل قبرص فى الوجود على مر القرون، وبين القرنين الثانى عشر والخامس عشر كان عدد اليهود فى قبرص أكثر من أى جزيرة يونانية أخرى، وعلى الرغم من أن اليهود القبارصة عانوا من بعض التمييز فى ظل إدارات مختلفة، وعدهم الملك بيتر الأول بمعاملة متساوية فى القرن الرابع عشر، وتبع هذا الإعلان وصول التجار اليهود من مصر، وبحلول أواخر العصور الوسطى كانت هناك مجتمعات يهودية فى جميع أنحاء الجزيرة.
وفى منتصف القرن السادس عشر، أمر البابا يوليوس الثالث بحرق التلمود، وجمعت السلطات فى فاماجوستا ٥٠ كتابًا يهوديًّا حُرقت فى ساحة البلدة، وفى تلك الأوقات، كانت المخطوطات المكتوبة بخط اليد نادرة للغاية وثمينة، وكانت هذه مأساة فظيعة، وهو ما دفع بعضهم إلى المشاركة فى التمرد الكبير ضد الرومان وقت حكم «تراجان» فى ١١٧ ميلادية، بعدما أصدر قرارًا بمنع اليهود القبارصة من العيش فى الجزيرة كعقاب لهم، لكن ذلك لم يدم طويلًا، حيث عاد اليهود إلى الجزيرة بعد ذلك بوقت قصير.
وعندما تم غزو قبرص من قبل الإمبراطورية العثمانية، ازدهرت الجالية اليهودية فى قبرص بسبب تدفق اليهود السفارديم من الأراضى العثمانية، الذين هاجروا بشكل جماعى إلى الأراضى العثمانية بعد طردهم من إسبانيا فى العام ١٤٩٢.
وكانت هناك محاولات لإقامة مستوطنات يهودية فى قبرص، بين عامى ١٨٨٣ و١٨٩٧، حيث كانت هناك بعض المحاولات لتوسيع المجتمع اليهودى بمهاجرين من رومانيا وروسيا، لكن لم ينجح الأمر، وفى العام ١٩٠١ كان عدد السكان اليهود فى الجزيرة ٦٣ رجلًا و٥٦ امرأة، وحتى عام ١٩٣٠ كان دورهم فى الجزيرة هامشيًا.
وبعد ظهور النازية فر مئات اليهود إلى قبرص، لكن بعد تصفية معسكرات الاعتقال فى أوروبا، أقام البريطانيون معسكر اعتقال فى قبرص للناجين من «الهولوكوست» الذين حاولوا دخول فلسطين بطريقة غير مشروعة.
منذ العام ١٩٤٦ وحتى قيام إسرائيل فى العام ١٩٤٨، حبس البريطانيون ٥٢ ألف لاجئ يهودى فى الجزيرة، وبمجرد قيام إسرائيل انتقل معظم اللاجئين إليها، وكان قد ولد حوالى ٢٢٠٠ طفل فى الجزيرة أثناء انتظارهم لدخول إسرائيل، وبعد استقلال الجزيرة عن الحكم البريطانى عام ١٩٦٠ أصبحت هناك جالية يهودية قليلة فى قبرص.
ذكريات الاعتقال والاحتجاز فى الجزيرة ظلت حاضرة فى أذهان الإسرائيليين، ففى العام ٢٠١٤، تم افتتاح «حديقة السلام» لإحياء ذكرى الاعتقال، وكل عام يحيون الذكرى فى احتفال كبير يحضره رئيس الوزراء الإسرائيلى.

350 عائلة يهودية تقيم بها حاليًا.. افتتاح أول معبد فى عام 2005.. ومتحف يحكى «روايات الإبادة»

التاريخ اليهودى فى الجزيرة لم يندثر، وما زالت آثاره موجودة. يقول المحقق اليهودى، جودى فين، فى الدراسة التى قدمها عن «الوجود اليهودى فى قبرص»، ونُشرت فى مركز «التراث اليهودى فى أوروبا»، إنه لا يوجد مكان فى العالم لا يحوى على الأقل موقعًا أو موقعين لليهود، هذا بسبب حياة اليهود القديمة التى كان أساسها السفر والتجارة، وميلهم لوضع آثار فى كل مكان يذهبون له.
وعن قبرص، قال «جودى»: «عندما ذهبت إلى جزيرة قبرص، كنت أبحث عما تبقى من يهود الجزيرة، فوجدت فى مدينة بافوس المعروفة بمقابرها اليونانية الفخمة، من عهد الإسكندر الأكبر والفسيفساء الرومانية المذهلة، شجرة كبيرة بها العشرات من المناديل المعلقة من فروعها، وفهمت أن الناس يتركون أمنياتهم معلقة بها على أمل تحقيقها، ورأيت ضريحًا قديمًا تحت الشجرة به سلسلة من الغرف الحجرية مع الشموع المحترقة والأيقونات، التى تركت كعروض على مذابح حجرية، وفى نهاية الدرج الآخر رأيت المياه الجوفية».
وعندما قرأت عن الضريح تبين لى أن الغرف التى ضمها كانت سراديب للموتى، حيث اختبأت امرأة يهودية مع أطفالها فيها، فى العصور القديمة، خوفًا من الاضطهاد، ثم سد الرومان سراديب الموتى فدُفنت هى وأطفالها أحياء، وأصبحت شهيدة وأصبح الموقع مكانًا مقدسًا.
أما عن اليهود اليوم، فعرفت أنه يعيش حوالى ٣٥٠ عائلة يهودية فى قبرص، عددهم حوالى ٣٠٠٠ مواطن، وصل الكثير منهم فى السنوات الأخيرة لأسباب مهنية.
ونصف الجالية اليهودية القبرصية إسرائيليون، والباقى معظمهم من البريطانيين أو الروس، وفى لارنكا كما يبدو يعيشون بحرية وهدوء، فرأيت أكثر من رجل يهودى يسير مرتديًا «الكيباه» فى الشارع، فلا يعانون التمييز أو العنصرية، على العكس، تمنحهم الجزيرة جميع حقوقهم كمواطنين.
حتى العام ٢٠٠٥، لم تكن هناك حياة يهودية كاملة فى قبرص، باستثناء الخدمات الدينية فى بعض الأحيان واحتفالات عيد الاستقلال الإسرائيلية التى عقدت فى السفارة الإسرائيلية فى نيقوسيا.
فى ذلك العام، وصل الحاخام آرى زئيف راسكين وأنشأ «بيت شاباد» فى لارنكا، ويزوره يوميًا عدد صغير من المتدينين، ويقيم صلاة السبت وخدمات العطلات، ويقدم وجبات طعام كوشير «حلال»، ودروس التوراة واليهودية، ويدير مدرسة الأحد، ويسهل المساعدات للقبارصة الباحثين عن العلاج الطبى فى إسرائيل.
فى العام ٢٠٠٥ أيضًا، افتتحت الجالية اليهودية أول معبد يهودى فى الجزيرة، وفى العام ٢٠١٦، فتحت الجالية اليهودية فى قبرص مراكز يهودية فى لارنكا ونيقوسيا وليماسول وأيا نابا، تقدم برامج تعليمية للبالغين ورياض الأطفال ومدرسة الأحد، وكذلك مصانع إنتاج النبيذ الكوشير.
ويوجد أيضًا كنيس يهودى فى نيقوسيا وبافوس وليماسول وأيا نابا، و٣ فنادق كوشير - وهو أمر مهم، فثلث الإسرائيليين الذين يزورون الجزيرة يحتفظون بالشريعة اليهودية، لكن بسبب لوائح الاتحاد الأوروبى المعقدة، قد لا يتم استيراد لحوم البقر أو الدجاج من إسرائيل، وبدلًا من ذلك، تشترى الفنادق هذه المنتجات من موردين فى بلجيكا وبولندا ودول أخرى أعضاء فى الاتحاد الأوروبى، وفقًا لما قاله لى الطباخ فى المطعم اليهودى الذى ذهبت لتناول العشاء فيه.
وحول سبب اهتمام الإسرائيليين بزيارة معابد لارنكا حتى لو كانت رحلتهم للسياحة، قال لى صديقى: «اليهود غير متدينين داخل إسرائيل، لكنهم يهتمون بتعاليم دينهم وهم خارجها، وهو ما دفعنى لمحاولة دخول المعبد اليهودى فى لارنكا».
فى اليوم التالى ذهبت للمعبد، وعند البوابة أوقفنى حارس الأمن وسألنى: أنتِ يهودية؟، قلت له: لا، فقط عرفت أن هناك احتفالا بعيد رأس السنة العبرية، وأردت الحضور، قال: أعتذر لك: غير مسموح بالدخول إلا لليهود، لدواع أمنية.
فى اليوم التالى، وفى طريقى لأحد شواطئ أيانابا، وجدت على الطريق كنيسًا يهوديًّا مكتوبًا عليه لافتة كبيرة، ترحب بالزوار، وتحث على مد اليد للآخر، أيًّا كان، دخلت المعبد، وعند البوابة قابلنى حاخام قبرصى شاب يرتدى «كيباه» قلت له: هل يمكننى الدخول؟ قال: أنت يهودية؟، قلت له: نعم، سألنى: من أين؟ قلت له إننى من يهود الأرجنتين، وأنتهز فرصة وجودى هنا وأريد الاحتفال برأس السنة العبرية، قال لى: الاحتفال سيبدأ الساعة السادسة، لكن أحتاج لجواز سفرك لتحضرى الاحتفال. سألته: هل يمكننى أن أقوم بجولة فى المعبد الآن، ثم أعود لك فى السادسة مع جواز سفرى للاحتفال؟ قال مرتبكًا: نعم.
فى جولة صغيرة فى المعبد، رأيت صورًا تذكارية للمعتقلين أثناء فترة الاحتجاز، وصورهم مع عائلاتهم عندما عادوا إلى قبرص بعد سنوات، ورأيت تحضيرات رأس السنة العبرية: التفاح بالعسل، والنبيذ القبرصى، والرمان، وعددًا قليلا من اليهود الذين بدوا غير قبارصة.
وبجوار المعبد يوجد المتحف اليهودى، المكون من خمسة طوابق، ويغطى مساحة ٣٠٠ متر مربع «٣٢٣٠ قدم» الطابق، وبه تقنية الواقع الافتراضى التى تسمح للزائر بالدخول وتجربة المواقع المقدسة فى إسرائيل، والتجول فى معسكرات الاعتقال فى قبرص، والحصول على إحساس معسكرات الاعتقال النازية، حيث أُبيد اليهود خلال «الهولوكوست»، وتم بناؤه بتكلفة حوالى ٢.١ مليون شيكل، فيما تعد أجزاء منه قيد البناء، ومتوقع افتتاحه رسميًّا فى ٢٠٢٠.

وجهة السياح والمستثمرين من تل أبيب.. وملجأ آمن لزواج «المثليين» ولعب القمار فى الكازينوهات


الإحصائيات تقول إن قبرص تستقبل ثلاثة ملايين ونصف المليون سائح سنويًّا، بينهم حوالى نصف مليون إسرائيلى، حتى إن إسرائيل احتلت فى العام الماضى المرتبة الثالثة بين أكبر مصدر للسياحة إلى قبرص، بعد بريطانيا وروسيا - وقبل ألمانيا واليونان.
وفى العام ١٩٩٥، افتتحت منظمة السياحة القبرصية «CTO» مكتبها فى مركز ديزنجوف فى تل أبيب، واستقل ٣٠ ألف إسرائيلى فقط رحلاتهم إلى الجزيرة القريبة، وفى ذلك الوقت كانت شركات الطيران الوحيدة التى تعمل بين البلدين هى El Al وCyprus Airlines. لكن منذ ذلك الحين أدى اتفاق «الأجواء المفتوحة» الثنائية إلى انخفاض الأسعار وتوسيع السياحة بشكل كبير- خاصة فى أشهر الشتاء.
فى مطار لارنكا ستكتشف بسهولة أن هذه الأرقام ليست مخادعة، وستلمس حجم السياح الإسرائيليين القادمين إلى قبرص، أمام مكان استخراج boarding pass حيث تقول الشاشة إن هذه الرحلات إلى تل أبيب، ستجد صفًا طويلا من الإسرائيليين المغادرين، بنظرة سريعة سترى أن أغلبهم عائلات من ذوى الطبقة المتوسطة، أو شباب مراهق.
سألت أحد الأصدقاء عن نوعية السياح الإسرائيليين الذين يختارون قبرص كوجهة، وهل ما لاحظته كان صحيحًا أم لا؟ قال صديقى: «قبرص مناسبة للشباب المراهق، والطلبة، فهى قريبة من إسرائيل، وغير مكلفة للشباب الذى لا يعمل بعد، كما أنها مناسبة أيضًا للعائلات من ذوى الدخول المتوسطة، فلارنكا تبعد ٤٥ دقيقة فقط بالطائرة من تل أبيب، كما أن هناك قوارب رخيصة الثمن تسافر بين تل أبيب ولارنكا».
كما أن مدينة لارنكا المطلة على البحر المتوسط لديها أقرب كنيس فى العالم إلى إسرائيل، لكن العكس غير صحيح، فالقبارصة لا يميلون بقوة إلى إسرائيل كوجهة سياحية. وإلى جانب الإسرائيليين، تعد قبرص موطنًا لمجموعة من اليهود الروس والفرنسيين والأمريكيين.
قبرص بالنسبة للإسرائيليين ليست وجهة سياحة فقط، هى أيضًا مكان مميز للاستثمارات والتجارة، فضلًا عن رخص تكاليفها مقارنة بإسرائيل، فالمستثمرون الإسرائيليون يعيشون فى قبرص من الإثنين إلى الخميس، ثم يطيرون إلى إسرائيل لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، وبجانب الاستثمار يأتى اليهود لقبرص للزواج المدنى، ولزواج المثليين، ولعب القمار فى كازينوهات الجزيرة.