رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زين محمود: الإنشاد لا يصح دون موسيقى.. وموظفو "الثقافة" بيحاربونى

جريدة الدستور

ارتبط اسمه برائعة «بتنادينى تانى ليه»، أبهر الجميع بأدائه «يبكى ويضحك لا حزنًا ولا فرحًا»، وأتعب من بعده فى «ألوان السما السبعة»، وقدم «السيرة الهلالية» على خطى الكبار.
هو «الشيخ» زين محمود، الذى دخل «دنيا الإنشاد» بفعل الأقدار بعد وفاة أخيه «ومعلمه» المنشد نجاح، ثم بات رقمًا صعبًا فى معادلة الإنشاد محافظًا على وصية «كبيرهم الذى علمهم السحر» السيد الضوى.

«الدستور» التقت المنشد الكبير، مع الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، حيث تحدث عن كواليس دخوله «عالم الإنشاد»، مرجعًا ذلك للخبرة التى اكتسبها فى الطفولة من الترديد فى حفلات الذكر وراء أخيه، وكشف عن طبيعة علاقته بالراوى سيد الضوى، أحد أهم شعراء السيرة الهلالية.
وتطرق «زين» لأبرز أعماله، وعلاقته بزوجته، وأجاب عن سؤال: لماذا يغيب عن حفلات وزارة الثقافة؟

■ كيف بدأ مشوارك فى عالم الإنشاد الدينى؟
- عندما كنت فى السادسة من عمرى كنت متعلقًا بأخى الأكبر «ناجح»، الذى كان منشدًا دينيًا يصطحبنى معه فى حلقات الذكر لأردد خلفه، أو أنتظر لحين انتهائه إلى أن يغلبنى النعاس ويحملنى هو على كتفيه وأنا نائم ليعود بى إلى المنزل.
وعندما كنت بنهاية المرحلة الإعدادية توفى أخى، رحمه الله، غرقًا، وظللت أبحث عن جثمانه لعدة أيام، حتى إنى رفضت الذهاب إلى لجنة الامتحان قبل أن أجده، وأخبرت أبى أنى لا أريد أن أكمل دراستى، لأن أيام الامتحانات أصبحت مرتبطة دائمًا بوفاة أخى الغالى.
بعد ذلك أدركت أن لدىّ خبرة فى مجال الإنشاد، اكتسبتها من كونى «مرددًا» وراء أخى، واقترح علىّ البعض أن آخذ مكانه، فارتجف جسدى لهذه المسئولية، ولم أدرك كيف يمكن أن أواجه الجمهور فى ظل حداثة سنى، خاصة أن الناس اعتادوا أن يكون المنشد الدينى رجلًا ذا هيبة ويمكن أن يجعلهم يشعرون بالحالة التى يبحثون عنها.
■ كيف تغلبت على هذه العقبة؟
- ساندنى خالى «الشيخ أنور»، وهو شيخ طريقة، وكان يستفتح الذكر بقراءة القرآن، لكنه لا يشتغل فى المدح والإنشاد رغم حفظه الكثير من القصائد، وهو من استطاع إقناع الجمهور بالاستماع إلىّ لأول مرة.
حينها توجهت إلى المكان المخصص للمنشد، وكان عبارة عن عدد من الدكك المصفوفة إلى جوار بعضها على شكل مسرح، وفوقها كرسى، كنت أقف عليه لأنى كنت قصير القامة، وبدأت الإنشاد فى «البوق» لأنه لم يكن هناك «ميكروفون».
وفى ذلك اليوم، استحضرت روح أخى، وبدأت الإنشاد متأثرًا وهائمًا، الأمر الذى لاقى استحسان الجمهور، وذاع صيتى بعدها.
■ هل تذكر أول أجر حصلت عليه مقابل الإنشاد؟
- فى هذا الوقت لم نكن نتقاضى أجرًا، بل كان هناك ما يسمى«الراتب»، وكان يتغير طبقًا لاستطاعة كل شخص يستضيف حلقة الذكر، فمنهم من كان يقدم بعد الذكر طعامًا، ومنهم من يقدم شرابًا وهكذا.
■ ما أسباب انتقالك من المنيا إلى القاهرة؟
- اكتسبت شعبيتى فى بلدتى من خلال الإنشاد الدينى وحفظى القرآن الكريم، وقراءته فى عقود القران والمآتم والأربعين، لكنى كنت أحب غناء الموال القصصى وأغانى الفلكلور، كما كنت أسعى لمزيد من التنوع، الأمر الذى لا يمكن تحقيقه فى بلدتى، لأن جمهورها لن يقبل هذا التغير.
ولأنى أعشق السيرة الهلالية، وأستمع إليها بانتظام من خلال متابعة الشاعر جابر أبوحسين، على «إذاعة الشعب»، اهتممت بإعلان إحدى الفرق إقامة عرض مسرحى عن «تغريبة بنى هلال» على مسرح قصر الثقافة ببنى مزار بالمنيا، وكان العرض يتضمن أداء «ذكر»، وطلبوا منى أن أؤديه معهم على المسرح، فى الوقت الذى كنت فيه متشوقًا للوقوف على مسرح حقيقى لأول مرة.
ومع هذا العمل، بدأت التنقل مع الفرقة فى سن ٢٤ عامًا، واتجهت إلى القاهرة بعدما قررت غناء ألوان أخرى، إلى جانب الإنشاد الدينى، ثم التحقت بإحدى الفرق التى احتكرتنى لمدة ٢٠ عامًا، الأمر الذى عطل مسيرتى بشكل ما، رغم أنه ساعدنى على حفظ الموال القصصى والسيرة الهلالية، التى استعنت فيها بكتب الراحل عبدالرحمن الأبنودى.
■ تأثرت كثيرًا بالشيخ الراحل سيد الضوى الذى وصفته بـ«الأب الروحى».. كيف بدأت العلاقة بينكما؟
- ذهبت إلى الشيخ سيد الضوى- رحمه الله- فى بلدته قوص، وطلبت منه أن يعلمنى، وهو ما رحب به، لكنه قال لى إنه لا يعلم كيف يمكن أن يعلمنى السيرة، فطلبت منه أن يتركنى فقط أستمع إليه وهو يغنيها على الربابة، ما رسخ العلاقة بيننا، كما أنه انضم معى إلى نفس الفرقة التى كنت أعمل معها، وإن كانوا لم يساندوه وقت مرضه رغم ما استفادوه منه.
■ ما أهم ذكرياتك معه؟
- فى نهاية ٢٠١٦، طلبت منه مشاركتى فى حفلاتى الرمضانية، وكانت ٢٢ حفلة، فرحب بذلك وعمل معى فى ١١ حفلة، كان آخرها بالإسكندرية، لكنه مرض بعد ذلك وقال لى: «يا ولدى.. كمل انت»، لكنى لم أدرك معنى جملته فى حينها، ولم أعرف أنه يطلب منى إكمال مسيرة السيرة الهلالية بعد وفاته.
حينها، أخبرنى برغبته فى العودة إلى قريته لأنه ليس بخير، واستمررت أنا فى الحفلات ثم سافرت إلى باريس لإحياء حفلة سنوية فى معهد العالم العربى ليلة ٢٧ رمضان، ولما عدت لمصر بعد العيد اتصلت به للاطمئنان على صحته، فأخبرنى حفيده بأنه بالمستشفى منذ عودته من الإسكندرية، وأنه رفض إخبارى بذلك، حتى لا ألغى حفلاتى وأذهب إليه، بعدها مباشرة سمعت خبر وفاته، وعلمت أن الموت حال بين لقائنا، وبقيت وقتًا طويلًا صامتًا فى غرفتى أتذكر كل ما دار بيننا.
فى اليوم نفسه، كنت ملتزمًا بإحياء حفل فى منزل، وفكرت جديًا فى الاعتذار من الحضور، لكنى خشيت أن يفكر بعضهم- أن قرارى ناتج عن رفضى فكرة الموت، فاستكملت الحفل وقررت أن أسافر إلى ساحة أبى الحجاج بالأقصر فى أربعين الشيخ سيد الضوى، لتكريم أحد أهم شعراء السيرة الهلالية.
■ اشتهرت بقصيدة «بتنادينى تانى ليه».. لماذا قررت غناءها؟
- فى عام ١٩٩٤، كنت أجلس مع العم «همام»، وهو مساعد الشيخ سيد الضوى، وأثناء جلستنا طلبت منه أن يغنى لى بعض أغانى الفلكلور، فبدأ غناء «بتنادينى تانى ليه»، وسألته لمن القصيدة؟، فأجابنى بأنه لا يعرف بل توارثها الجميع من جد لجد، فطلبت منه أن يغنيها فى أول حفلة مقبلة، وهو ما رفضه فى البداية ثم استجاب بعد ذلك تحت إلحاحى.
وعندما استمع الجمهور إلى الكلمات من هذا المغنى الذى جاوز السبعين خرجت القصيدة إلى النور من جديد، وقررت أن تظهر فى ثوب جديد يناسب العصر، مع احترام التراث الذى هو ملك للجميع.
كنت وقتها قد بدأت إعادة توزيع أغانى الفلكلور ومزجها بموسيقى غربية، بعدما لاحظت عبر مواقع التواصل مدى اهتمام الشباب المصرى بها، وبعدها غنيت القصيدة وأسست فرقة اسمها «زمان فابرك» فى مارسيليا بفرنسا، وضممت إليها أكبر العازفين الفرنسيين وتخصصت فى تقديم المديح والموال القصصى والفلكلور، وسجلنا أسطوانات وأقمنا حفلات فى عدد من دول العالم، خاصة أن الغربيين يقدرون هذا الفن ويهتمون به أكثر من المصريين.
■ تعرفت فى هذا المجال على زوجتك المنشدة شيماء النوبى.. كيف بدأ اللقاء بينكما؟
- دائمًا ما كنت أشجع الأصوات الجيدة وأشجع أصحاب المواهب، وعندما كنت فى فرنسا قررت شيماء النوبى أن تتعرف إلىّ، وظلت لمدة عامين تحاول التواصل معى، فى الوقت الذى كنت فيه مسافرًا، فبعثت لى برسالة عبر مواقع التواصل لتعرفنى بنفسها، وطلبت منها أن ترسل لى بعض أعمالها.
وبعدها أرسلت لى تسجيلًا يتضمن إنشادها إحدى القصائد، فأعجبت بصوتها وأخبرتها أنى سأعود إلى مصر خلال أسبوع، وأنها ستشاركنى فى بعض حفلاتى المقبلة، وكانت تلك المرة الأولى التى أوافق فيها على أن يشاركنى أحدهم فى إحياء أى حفل قبل أن يخوض تدريبًا مكثفًا وبروفات لعدة أشهر.
بعد ذلك، سافرت مجددًا، واقترحت عليها أن تغنى بعض أغانى الفلكلور فوافقت، ورحبت بالفكرة لكونها تحب هذا اللون، وبدأنا نشعر بنوع من الانجذاب والانسجام إلى أن تزوجنا ورزقنا مؤخرًا بأحد الأبناء.
■ لماذا لم تقدما معًا «دويتو» غنائيًا؟
- فكرنا فى ذلك فعلًا، وبدأ التدرب على دويتو اسمه «يا ابن الناس»، وكان يتضمن حوارًا ومشاجرة بين رجل صعيدى وزوجته ويتطلب أداءً تمثيليًا، وعندما بدأنا البروفات وجدت «شيماء» تضحك بشكل مستمر على أدائى، خاصة أنها لم ترنى بهذا الشكل من قبل، إلا أن الفكرة لم تكتمل.
■ يهاجم البعض استخدام الموسيقى فى مجال الإنشاد.. كيف ترى ذلك؟
- الإنشاد أو المدح هو قصائد فى حب الرسول والتقرب إلى الله، والمداح فيها يكون كمن يرسل رسائل لحبيبه، وهو ما يكون مرتبطًا بالموسيقى، على عكس الابتهال الذى يتضمن تضرعًا من العبد إلى الله.
والعديد من الطرق الصوفية لا تستخدم الموسيقى، لكنها أيضًا لا تحرمها، وهؤلاء يحضرون حفلات الذكر على أنغام الموسيقى عندما يدعون إليها، وهناك طرق أخرى مثل: القادرية والرفاعية والبيومية تذكر الله على أنغام الموسيقى باعتبارها غذاء للروح.
وفى عهد الرسول، عليه الصلاة والسلام، كان هناك شعراء كثيرون يمدحون، ولدينا أنشودة «طلع البدر علينا» التى غناها أهل المدينة عند استقباله، مستخدمين الدفوف، وهذا يعد من الإيقاع ولم ينههم عنه رسول الله.
■ كيف تتعامل مع الانتقادات التى توجه إليك؟
- أتجاهل دائمًا ما يزعجنى وأنصرف عنه، لأن المجادلة لا تؤدى إلا إلى ضياع الوقت وانشغال الذهن، لذا أفضل الصمت وأفعل ما أريد.
■ ما أبرز المشكلات التى تواجه الإنشاد الدينى حاليًا؟
- قبل عام ١٩٩٠، كان الإنشاد الدينى فى أبهى صوره، وكانت حفلات الذكر شبه يومية، بعد ذلك أصبح الإقبال على حفلات الإنشاد قليلًا، وأعتقد أن ذلك يرجع إلى اختلاف الأجيال من حيث الثقافة والذوق العام، بالإضافة إلى ذلك، أصبح كثير من أبناء المنشدين يرفضون استكمال مسيرة آبائهم، الأمر الذى يهدد المجال بشكل كبير.
وفى الماضى، كانت الدولة أكثر اهتمامًا بالإنشاد، وكانت المسارح، خاصة فى شهر رمضان، مفتوحة للإنشاد والمواويل الشعبية، وكذلك كنا نرى مظاهر الاحتفال برمضان فى الشوارع، وعلى مسرح الطليعة وبيت الهراوى وبيت السحيمى وشارع المعز، وغيرها.
وكان الاحتفال بالمولد النبوى، أيضًا، يستمر من بداية شهر ربيع حتى يوم ١٢، لكنه اقتصر الآن على يومين فقط، وأصبحت حفلات محدودة وخاصة، حتى إنى لم أتلق دعوة من وزارة الثقافة لإحياء المولد النبوى هذا العام.
■ فى رأيك.. كيف يمكن الارتقاء بهذا المجال وتطويره؟
- هناك الكثير من المشروعات، لكن لا توجد جهات مهتمة بالإنشاد الدينى، صحيح أن بعض الجهات الخاصة تبدى اهتمامًا بدعمه وتطويره، فإن لديها اهتمامات كثيرة وقوائم انتظار للإنتاج.
■ كيف يمكن لوزارة الثقافة أن تسهم فى تطوير الإنشاد الدينى؟
- وزيرة الثقافة صديقة عزيزة، وأحب أن أقول لها إننى تقدمت بطلبين للاشتراك فى مهرجان القلعة وكانت النتيجة هى الرفض، والمسئول عن رفض الطلب تحجج كذبًا بأننى لا أقدم حفلات فى دار الأوبرا، لكنى أخبرته أنى قدمت حفلًا على مسرح الجمهورية قبل شهر من الطلب، وطلبت منه مراجعة العقود فرفض.
لذا، أطلب من وزيرة الثقافة أن تتدخل وتراجع قوائم الحفلات والمنشدين فى السنوات الأخيرة، وساعتها ستكتشف التكرار والتحيز لأسماء بعينها، والحل فى رأيى هو منح الفرصة لأكبر عدد ممكن من المواهب، خاصة تلك التى تحتاج لمساندة من الدولة، إلى جانب القضاء على «الشللية»، وعزل الموظفين غير الأكفاء، خاصة أنى أعرفها وأعرف أنها لن تتهاون مع المخطئ.
كما أننا نحتاج لأعمال فنية تتضمن الإنشاد والموال والسير، كى تتعرف الأجيال الجديدة على التراث، ما يسهم فى الارتقاء بالمستوى، بعد ما وصلت إليه بعض الأعمال السينمائية من تدنٍ، خاصة أنى أرى شبابًا من سن ١٨ عامًا يحضرون حفلات الإنشاد الدينى ويستمتعون بالحالة الروحانية لهذه الحفلات، وهو ما يمكن أن يبعدهم عن الأعمال العشوائية.
■ ما أهم مشروعاتك فى الفترة المقبلة؟
- كتبت سيناريو فيلم «حياة زاهد»، وهو اسم مؤقت لعمل يدور حول قصتى الخاصة فى الإنشاد، وخلاصة تجربتى مع المواقف الصعبة التى واجهتنى، والعمل الآن فى مرحلة المراجعة، وأرجو أن يرى النور قريبًا.
■ ما نصائحك للمنشدين المبتدئين؟
- على كل منشد أن يلتزم بالحياة الصحيحة، وأن يُخلص إلى الله أولًا، ثم يُخلص للناس، ويسعى إلى التميز والابتكار ويبتعد عن التقليد.
■ هل تفضل أن يطلق عليك لقب «شيخ»؟
«الشيخ» كلمة كبيرة، لكنهم يطلقونها على المنشدين والمقرئين، صحيح أننى أسعى إليها لكنى لا أستحقها بعد، فهى كلمة لها هيبة ومن يدرك معناها الحقيقى ويفوز بها ويصل إليها هو العبد الأكثر تقربًا وتضرعًا إلى الله.