رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الطفل المصري بين التعليم والثقافة.. وتكنولوجيا المعلومات


أعرف منذ البداية في الحديث عن عالم الطفل الآن؛ انني أدخل إلى عالم  سحري مليء بكل المتناقضات والمفارقات التي لاتخطرعلى بال أحد؛ فأطفال  اليوم ذوي طبيعة شديدة الخصوصية؛ عكس الأجيال التي استمدت ثقافتها وعلومها المعرفية من حواديت" الجدَّة " في ليالي ائتلاف والتفاف الأسرة المصرية عن"الشاطر حسن" و"ست الحُسن والجمال" و"حذاء سندريللا"؛ ناهيك عن حواديت"  الجد" عن" أبوزيد الهلالي" و"عنترة بن شداد" و" سيف بن ذي يزن"؛فلم يعُد هذا الجيل "الحكَّاء" موجودًا في واقعنا المعاصر؛ لانشغالهن وانشغالهم في ميادين العمل ومحاولة انتصارهم في صراعات معارك الحياة اليومية؛ من أجل اكتساب المزيد من "النقود" لسداد ثمن احتياجات المتطلبات الحياتية اليومية من المأكل والمشرب والملبس ونفقات التعليم الرسمي في مقاعد ومدرجات مدارس وجامعات الدولة؛ الذي يتطلب الكثيرمن الأعباء لمواجهة المتغيرات المتسارعة  في المجتمع؛ فضلا عن اجتياح عواصف التكنولوجيا المتقدمة التي لاتعبأ بحواديت الشاطر حسن، ولا غزوات أبو زيد الهلالي في أعماق الصحراء؛ من أجل  الحصول على السطوة والهيبة والنفوذ بين ابناء القبائل والعشائر والعصبيات.

لقد قفزت التكنولوجيا بحياتنا وحياة أطفالنا إلى آفاق أرحب وأوسع من مدارك  الأجيال القديمة؛ وأصبح لزامًا علينا ـ نحن الآباء والأمهات ـ الانصياع  إلى احترام هذا العالم الجديد الذي يخطف عقول وأبصار أطفالنا؛ تاركين خلف  ظهورهم حواديت "الجدَّة" التي لم تعُد "حكَّاءة" تخطف في أحضانها الأحفاد  والحفيدات إلى عالمهن الذي لم يعُد سحريًا ولا مبهرًا للأجيال الصاعدة في  عالم الطفولة .

فكيف إذن نستطيع أن نحقق التقارب المنشود إلى عالم الطفل والطفولة؛ للقضاء على الفجوة التي اتسعت بيننا وبينهم هذه الآونة ؟

إننا نعرف أن أدب الطفل هو غصن  من أغصان شجرة  الفن الأدبي الذي يشتمل على أساليب القصة والرواية والشعر التي يعكف الأدباء على كتابتها بشكل خاص للأطفال والأولاد تحت سن المراهقة؛ لمنحهم أدبا راقيا يحمل في طياته كل المعاني الأخلاقية  السامية ؛ ليخطو بهم خطوات واثقة مع بداية سن الشباب والرجولة .

ففي الأزمنة القديمة ومرحلة القرون الوسطى؛ اجتهد الشيوخ والقساوسة في محاولة تلخيص المباديء العقائدية والتركيز على تفسير ماجاء في القصص بمتن نصوص الكتب السماوية؛ ولكنها  لم تستطع أن تخلق إنسانًا متفاعلاً مع البيئة والمجتمع من حوله بإعمال ملكة االتفكير واستخدام العقل؛ بل صنعت أجيالاً تكاد أن تجعل من تلك التفاسير الجامدة دستورًا لحياتهم ومعاملاتهم؛ فاتسعت الفجوة وانقسمت المجتمعات بين مؤيد ومعارض؛ وتاه "الطفل" بين هؤلاء وهؤلاء؛ لايجد المرفأ والملاذ لأفكاره وتطلعاته .

وسرعان ماظهر مصطلح (أدب الطفل) قبيل بدايات القرن التاسع عشر في الدوريات العربية وفي عناوين المقالات، وهذا بالطبع لا ينفي وجود أدب الطفل قبل ذلك؛ ولكنه كان فقيرًا جدًا ويقتصر فقط على الأغراض التعليمية البحتة؛ ويقول بعض االمؤرخين إن "ميلاد هذا الجنس الأدبي مر بعدة مراحل : الترجمة والاقتباس ثم الدعوة النظرية فالتجريب الفني ثم التأصيل، ودعا أمير  الشعراء أحمد شوقي في مقدمة ديوانه "الشوقيات" عام 1898م إلى قيام أدب الطفل مقرونًا بالحكايات والقصص الشعرية للأطفال، وأخرج أحمد شوقي نماذج لهذا الأدب متأثرًا بحكايات (لافونتين)؛ إلا أن هذه النماذج حفلت بكثير من الجانب الرمزي؛  ولا يفوتني في هذا الصدد أهمية الإشارة إلى كتاب "إميل" الذي كتبه الأديب الفرنسي "جان جاك روسو" عن تربية الطفل وطبيعته؛ وهو الذي لقي اهتمامًا واسعًا في أوساط علماء التربية؛ ليس لأهمية محتوى  أفكار الكتاب فحسب، ولكن للإحساس بصدق  مقولات وآراء"روسو" الذي أتي عبر طفولة معذبة منذ وفاة والدته وعمره لم يكتمل اسبوعه الأول!

ومع تأثرالأدباء في كل أنحاء العالم بأدب وثقافة الطفل؛ ظهر على الساحة  الثقافية المصرية الأديب الروائي كامل الكيلاني، وهو كاتب وأديب مصري اشتهر بأعماله الموجهة للأطفال وأطلق عليه النقاد لقب رائد أدب الطفل وترجمت قصصه إلى عديد من اللغات؛ ابتداءً من قصته الأولى (السندباد البحري) 1927م، مرورًا بقصصه التي استقاها من التراث العربي والعالمي أيضًا، وكانت قصص الكيلاني تهدف إلى تغذية روح الطفل وخياله، كما كان يحرص في كتاباته على أن يجنبهم الخطأ اللفظي ويحثهم على القراءة والاطلاع، وكان يضبط الكلمات ضبطا كاملاً؛ لذلك كان  له أكبر الأثر في تشكيل وجدان وأحاسيس ومشاعر المصريين في حقبة تاريخية فارقة تتقاذفها رياح وأعاصير الاحتلال البغيض، فكانت لمؤلفاته الفضل الأكبر في غرس روح الانتماء والوطنية الحقة في نفوس الأجيال التي عاشت مع قصصه المتفردة باللغة الرصينة؛ وهي من صنعت الأجيال الواعية بقيمة ومقدرات الوطن؛ تلك الأجيال التي قضت على الاحتلال والإقطاع وانتزعت الحرية للوطن كي يستكمل مسيرته التقدمية إلى يومنا هذا .

ولكننا الآن ــ وللأمانة الوطنية والعلمية ــ لانستطيع أن نخفي رءوسنا في الرمال؛ أو بين أكداس الكتب الصفراء لمدعي العلم والسلطة الكهنوتية من خوارج العصر؛ والتي ازدحمت  بها أرفف المكتبات العتيقة وأرصفة المساجد والزوايا في كل أنحاءالبلاد، الأمر الذي توارت معه الكتب والقصص ذات القيمة الجمالية والمعرفية، وهومايستدعي وقفة حازمة من الدولة لإعادة توجيه البوصلة في الثقافة ـ وثقافة  الطفل على وجه الخصوص ـ إلى الوجهة الصحيحة؛ وضرورة رصد الجوائز المادية والمعنوية لكتاب أدب الأطفال والفنانين من الرسامين الذين تخصصوا في تجسيد القصص برسم أبطالها  ليعيشوا في خيال الطفل مدى الحياة.

وتبقى بعد كل تلك الأمنيات والأحلام المشروعة  لمستقبل أدب الأطفال  في مصرنا المحروسة ودائرتنا العربية التي نُطل عليها وتطل علينا؛ بصفتنا روادًا في كل الفنون والآداب؛ أن ننجح في أن ننتزع الطفل من الجلوس أمام االشاشات الزرقاء؛ ليعود إلى احتضان "الكتاب الورقي" ليعيش بين طياته ويستنشق رائحته؛ بدلاً من التعامل مع الآلات الجامدة والشاشات التي تخطف البصر والبصيرة ،فقد أثبتت الأبحاث  أن أثر التكنولوجيا على قدرة الأطفال على التفكير أظهرت العديد من الآثارالإيجابية والسلبية من حيث قدرة الأطفال عليه، فهي لا تؤثر فقط على طريقة تفكيرهم بل تؤثر أيضاً على طريقة نمو أدمغتهم وتطورها، حيث  "  ... يؤكد الكاتب التكنولوجي (  نيكولاس كار) على قدرة القراءة على رفع مستوى التركيز والخيال في الدماغ، وبالمقابل على قدرة التكنولوجيا على تحفيز الدماغ على تفحص المعلومات وتخزينها بسرعة وكفاءة عاليتين، مع التركيز على أن نوعية التكنولوجيا التي تقدم للأطفال وطريقة تقديمها لهم هي ما تجعلها ضارة أو نافعة لعملية تطور التفكير لدى الأطفال، خاصةً في السنوات الأولى من حياتهم  ..." .

إذن نحن نقع في المسافة بين المطرقة والسندان، تتنازعنا ضرورة  اللحاق بمتطلبات العصر واختراعاته التي لاتتوقف لحظة، فأثر التكنولوجيا خطيرعلى سلوكيات الأطفال لأن العلماء ربطوا بين الاستخدام المفرط للتكنولوجيا مع رفع احتمال حدوث السلوكيات الخطيرة لدى الأطفال وغيرها من التقلبات المزاجية، كما ربطوا بين الاستخدام المعتدل للتكنولوجيا وقدرتها على تنمية عدد من المهارات المعرفية والاجتماعية والسلوكية، فالإفراط في استخدام التكنولوجيا تتسبب في تشقق وانهيارجدران الروابط العاطفية بين أهل البيت الواحد، وبخاصة بين الآباء والأمهات والأطفال،  علاوة على  ـ بحسب رأي العلماء ـ زيادة احتمالات الوقوع في براثن االتدخين وإدمان المخدرات لمجابهة ساعات التحديق في الشاشات التي قد تعرض الموضوعات التي قد تؤذي الذوق العام والأخلاقيات .

إننا بصدد مايشبه معركة تنظيمية في حقل تحصيل المعارف المهمة لحياتنا؛ لإمكانية تحقيق المعادلة الصعبة للمزاوجة بين الاستفادة من مخرجات التكنولوجيا المتقدمة؛ والاندماج _ في الوقت نفسه _ مع تحليق الروح بين دفتي " الكتاب الورقي" بين أيدينا ؛ وبخاصة في في الريف والبيئة الصحراوية التي تشكل مساحة كبيرة من خريطة الوطن ؛  والتي قد لاتتوفر لها الكثير من وسائل المعدات التكنولوجية الحديثة ؛ والمسئولية هُنا تقع على عاتق وزارتي التعليم والثقافة المنوط بهما تحقيق وانتشار وجهي عملة النجاح والتقدم والرفاهية للأمم والشعوب: التعليم والثقافة.