رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غنوا.. الغناء مُعادل الحياة




ما أكثر الكتابات والأعمال السينمائية حول الحب في زمن الحرب؛ وما أغرب اختلاف الأبجدية بين زيادة ونقصان حرف الراء، فإن من يُحب لا يقتل، ولا يموت أيضًا، كما قال الأستاذ زياد، الذي قدّم لنا حكاية ثرية يبرز فيها تداخل الحرب السورية بمصائر الناس بشكل إنساني مُرهف، نراها عبر تراجيديا اجتماعية ممزوجة بالكوميديا السوداء في بعض الأحيان.
في الفيلم السوري "درب السماء" للمخرج جود سعيد، وهو فيلمه الطويل الرابع، سوف تستشعر الفرح الذي يولد من رحم المأساة، وترى أمامك الابتسامة وهي تخرج من بين شقوق الشفاة، ووجوه أنهكتها الدموع، وصنعت مجارٍ وقنوات على الخدين، لكنها -ورغم ذلك- لا تزال تضحك. وهنا تكمن جودة ما استطاعه جود فى فيلمه الذي تمكن فيه من إبراز الضحكة وسط مآسي الحرب، والإصرار القوي على تخطي الصعاب والبحث عن الفرحة، حتى في أحلك المواقف وأشدها سوادًا؛ ليُقدم المخرج تصورات رومانسية من خلال أبطال فيلمه، أتاحت له أن يُحقق قفزات في الخطوط الدرامية دون أية تساؤلات عن مبررات هذه القفزات التي قد يتجاهلها المشاهد العادي لأنه يحلم بحياة أكثر سلامًا وأقل تعاسة في حياة البشر.
الفيلم الذي كتبه وأخرجه سعيد ومن إنتاج المؤسسة العامة للسينما بالتعاون مع آدامز بروداكشن، تم عرضه ضمن فعاليات الدورة الـ35 لمهرجان الإسكندرية لسينما حوض البحر الأبيض المتوسط، وفاز بثلاثة جوائز جائزة أفضل سيناريو في المسابقة الدولية وجائزة أفضل فيلم في المسابقة العربية، إلى جانب جائزة أفضل تمثيل أيمن زيدان في هذه المسابقة، تدور قصته حول أسرة الأستاذ زياد /أيمن زيدان، والذي يعمل كأستاذ للأدب، والذي يرفض الهجرة ويظل متمسكًا دائمًا بتواجده في ضيعته ومنزله، حتى أنه عاد إليها بعد أن قام بدفن ابنته رؤى/ نور علي. يتلقى الأستاذ زياد التعازي بمرارة وصمت، ليبقى سؤال مُعلق بدون إجابة عن "كيف ماتت ابنتك يا أستاذ زياد؟"؛ ولكي تُجيب على هذا السؤال فعليك خوض رحلة عميقة في أحداث الفيلم التي تُقابل من خلالها الكثير من التناقضات الاجتماعية، والتشدد الديني، والإرهاب، والقمع السياسي، والخذلان؛ وكذلك الحب والموت من أجل هذا الحب.
تمر الأحداث في سرد سلس وفائق النعومة لمآسى أشخاص تم إجبارهم على مواجهة الحرب ضد الأعداء والأصدقاء وأعضاء العائلة الواحدة، فتجد الشقيق الأصغر للأستاذ زياد (توفيق)/ حسين عباس ثري الحرب الانتهازي، الذي يُساوم أخيه على التنازل عن أرضه في مُقابل تركه يحيى بسلام وإلا أبلغ السلطات عن تواجد قاصر في منزله، بالرغم من معرفته أنها ابنة أقرب أصدقاء العائلة لجين/ مرح حسن. لم يتوقف الشقيق الحقود عند المقابلة الأولى بعد عودة زياد إلى الضيعة، ولكنه استمر في ملاحقته وإيذاءه، حتى أودعه السجن لإجباره على التنازل عن بيته وأرضه من أجل إنقاذ سمعته وسيرة الفتاة البريئة التي تعهد لوالدها أبو محمد/ جرجس جبارة، بالتكفل بها وتعليمها أملًا في حياة أفضل للفتاة التعيسة.
يمتلىء الفيلم بالمشاعر الإنسانية المتمثلة في دعم الأصدقاء من منكوبي الحرب لذويهم، مثل رام/ جابر جوخدار، الذي فقد ساقه واضطر لاستخدام ساق صناعية، تلك التي يقوم بإعارتها لصديقه، ومن ثم يُعيره الصديق أخرى جديدة لحضور حفل زفاف والده، بالإضافة إلى أمجد زوج راما ابنة الأستاذ زياد، والذي كف بصره في أحد حوادث التفجيرات، فما كان من حبيبته إلا أن تستكمل إجراءات الزواج، وتوافق أن تقضي عمرها معه لتُصبح عينيه البديلة.
وبالحديث عن إقامة الأفراح وانطلاق الأغنيات ونشوء قصص الحب، فقد وجب الإشارة إلى النجاح الذي حققه الفيلم في تصدير إحساس البهجة وسط النكبة، في مشاهد تجهيز العروس راما وتمشيط شعرها وسط الزغاريد والدموع، في خليط لمشاعر متناقضة، سرعان ما تتفوق فيه البهجة، سوى أنها تتلاشى عندما يعلو صوت الرصاص على الموسيقى. يسقط سقف الساحة الخارجية فوق رؤوس العروسين والمدعوين، فيتناثر الغبار على المشهد، ولا يتخلص العريس أمجد من آثاره لبقية أحداث الفيلم، فتجده يحمل الغبار على ملامحه وثيابه، في إشارة إلى استمرار التفجيرات، فلن يتخلص من غبار وجهه إلى الأبد. كما في عرس الأستاذ زياد ومريم /صفاء سلطان -في دور مديرة المدرسة- وهي السيدة الراقية التي نشأت بينه وبينها علاقة حب قوية في وقت قصير ، أبرزتها كاميرا جود سعيد مستخدمًا طبيعة الشام الساحرة، وخاصة الأشجار ،متيمنًا بأشجار الروسي تاركوفيسكي التي تُشبه زياد الراسخة جذوره في أرض وطنه.
لم يستخدم السيناريو الفلاش باك والقفز بين الزمن، ولكن في سرد مستقيم يقدم الأحداث الآنية بالترتيب، وصولًا إلى نقطة البداية عند وفاة ابنة الأستاذ زيدان شنقًا على يد المتطرفين، عقابًا على جريمة الوقوع في الحب، فيقرر العودة إلى ضيعته وأرضه، لتبدأ أحداث الفيلم، ويبدأ في تلقي التعازي بابتسامة حزينة وإجابة صامتة عن سؤال "كيف فقدت ابنتك يا أستاذ زياد؟"؛ ليستغل في كل هذا قدرات أيمن زيدان، الذي يلعب الدور الرئيسي في الفيلم بصفته العلمية كأستاذ أدب تخرج من تحت يديه المئات من التلاميذ، إلى جانب العمق الإنساني والرومانسي الذي قدمه بشفافية كبيرة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف على هذه المواقف الرومانسية التي لا مكان لها في عالم الواقع المليء بالبارود وطلقات الرصاص وأصوات الانفجارات.