رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. طه حسين

جريدة الدستور


لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أخذت «جلنار» تعمل فى الدار كما كانت تعمل، وكان من بين عملها بطبيعة الحال أن تمضى فى خدمة أختها متزوجة بعد أن كانت تخدمها قبل الزواج، وأن تمضى فى خدمة هذا النزيل الجديد بعد أن تحول عنها قلبه، وبعد أن أهدى إليها هذه الخيانة البشعة، كما كانت تخدمه من قبل حين كانت ترجو حبه، وحين استيأست من حبه، ولكنها لم تكن تنتظر أن تنتهى به القسوة إلى الخيانة. ويجب أن نعترف بأن «جلنار» مضت فى حياتها وفى عملها كما كانت تمضى من قبل لم يُظهر أحد من الأسرة على أنها محزونة أو يائسة، إما لأنها لم تظهر حزنًا ولا يأسًا وإما لأن الأسرة لم ترد أو لم تستطع أن ترى عليها مظاهر الحزن واليأس.
إنما هى امرأة واحدة لم تستطع أن تُقيم فى الدار، ولا أن تحتمل هذا البؤس الأليم، وهى نفيسة التى طلبت فى حياء يُمازجه الذهول أن تزور ابنتها سميحة، وودت لو أُذن لجلنار فى صحبتها، ولكن «منى» أجابتها فى قسوة هادئة: تستطيعين أن تزورى ابنتك إن شئت، فأما جلنار فلن تستغنى عنها الدار فى هذه الأيام.
وقد آثرت الأم البائسة أن تُفارق ابنتها على أن تراها فى هذا العذاب البغيض، وكذلك خلت الدار، حتى من هذا الشعاع الضئيل، الذى كان ينفذ إلى قلب الفتاة من حنان أمها البائسة، فيشيع فيه شيئًا من الطمأنينة والراحة، ولم يبق لها إلا وجه أبيها الذى كان يبتسم لها على استحياء؛ لأنه كان يقدر بُؤسها فى أعماق ضميره، ويقدر قسوته عليها وتقصيره فى ذاتها، ولكنه لم يكن يستطيع أن يظهر لها أو لغيرها من ذلك شيئًا، فاتخذه سرًا بينه وبين الله، يستغفر الله منه، ويستعينه على احتماله إن استطاع أن يخلو إلى نفسه، وما أقل ما كان يستطيع أن يخلو إلى نفسه! وأقبل مع ذلك ذات يوم شيخ متقدم فى السن من أصدقاء خالد يكاد يكون تربا له- وكان هذا الشيخ قد فقد أهله منذ حين- أقبل إلى خالد ذات يوم يخطب جلنار، ولم يدر أحد أدفعته الرحمة إلى هذه الخطبة، أم دفعته إليها الحاجة إلى من يُؤنس وحدته، أم دفعه حرصه على أن تزداد الصلة بينه وبين صديقه متانة وتوثيقًا؟ ولكنه خطب الفتاة إلى أبيها على كل حال، ووجد خالد فى هذه الخطبة روحًا من الله يُخفف عنه بعض ندمه، ويغسل عن نفسه بعض ما علق بها من الإثم والحوب، فوعد صديقه خيرًا على أن يشاور ابنته، ثم خلا إلى الفتاة بعد أن آذن زوجه بالأمر بهذه الخطبة فى صوت هادئ، لا يخلو من اضطراب، وفى ابتسامة متكلفة لا تخلو من حزن، ولكن الفتاة استمعت له مطرقة، ثم أجابته دون أن ترفع رأسها إليه قائلة: ليس لى فى الزواج أرب، وما أحب أن أفارق هذه الدار، فلما أراد أبوها أن يحاورها فى ذلك، رفعت إليه رأسها باسمة فى صوتها الذى لم يخل من عنف: ومن ذا الذى يقدم إليك وضوءك وقهوتك فى الصباح والمساء؟ ثم تولت عنه معرضة وقد استيقن أنه لن يظفر منها بشىء؛ فلما أعاد حديثها على زوجه قالت «منى» فى صوت ساخر بعض الشىء: إن شجرة البؤس ما زالت تُوتى ثمارها، قال خالد ولم يستطع أن يُخفى عبوس وجهه: فعسى الله ألا تذوقى أنت ولا بناتك بعض هذه الثمار! ولكن الله لم يستجب لخالد دعاءه فى هذه المرة فقد لقيت تفيدة من زوجها ما لقيت، وابتأست فى حياتها ما ابتأست.
من رواية «شجرة البؤس»