رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ستون عامًا على رهبنة فرانشسكا وتشيشيليا


فى هذا العام ٢٠١٩ تحتفل راهبات «ماريا أوزيليا تريتشى» الإيطالية بمصر بمرور ستين عامًا على رهبنة راهبتين مبدعتين– من رهبنة الـ«سالزيان»– هما الراهبة «فرانشسكا أردتيو» والراهبة « تشيشيليا بتشجو».
كلمة «سالزيان» مشتقة من اسم القديس الإيطالى «فرنسيس دى سالس» المشهور بالوداعة والحنان والاهتمام بالفقراء والذى كان يحبه كثيرًا الشاب التقى «دون بوسكو»، وقد وُلدَ يوحنا بوسكو أو «دون بوسكو» فى قرية «بيكى» بالقرب من مدينة تورينو الإيطالية سنة ١٨١٥ من أسرة مكونة من خمسة أشخاص، الأب فرنسيس، الأم مارجريتا، الأخوان أنطون ويوسف. توفى الأب فرنسيس بعد عامين من ولادة يوحنا بوسكو فاهتمت الأم بتربية أبنائها على التقوى ومخافة الله ومحبة الفقير، بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التى كانت تمر بها العائلة. اضطر يوحنا بوسكو لترك بيت العائلة للقيام بمهام عامل إصطبل فى مزرعة، مستغلًا أوقات فراغه فى الدراسة والصلاة. عندما بلغ سن التاسعة من عمره أدرك من خلال حلم عجيب دعوة الله له ليكرس حياته لخدمة الشباب الفقير. لقد حلم بمجموعة من الصبية يلعبون ولكنهم يجدفون ويتفوهون بكلام بذىء فحاول إسكاتهم بقبضته ولكنه لم يفلح فى إسكاتهم، فرأى رجلًا وامرأة يخبرانه بأنه ليس بالضرب، بل بالحب والوداعة يستطيع أن يغير القلوب. كبر «يوحنا بوسكو» وسيم كاهنًا بعد تغلبه على الكثير من الصعاب، كما أنه تعلم العمل كإسكافى ونجار ومجلد كتب وكبهلوان وكراعى أبقار. أخذ على نفسه عهدًا بأن يهب حياته لخدمة الشباب الفقراء والمحتاجين. استقبل أول صبى مُشرد فى سنة ١٨٤١ ودار بينهما هذا الحديث: ما اسمك؟ قال الصبى: برتلماوس جاريللى، سأله: ماذا تعمل؟ قال: بنّاء، سأله: هل والدك حى؟ أجاب: لأ، سأله: هل والدتك حية؟ أجاب: لأ، سأله: هل تعرف القراءة والكتابة؟ أجاب: لأ، سأله: هل تعرف الغناء؟ أجاب: لأ، سأله: هل تعرف تصفّر؟ استغرب الشاب وضحك ولكنه صفَر مع دون بوسكو وصارا من هذه اللحظة أصدقاء وصليا معًا صلاة السلام الملائكى وبعدها زاد عدد الأولاد ووصل إلى ٤٠٠ صبى. أسس «دون بوسكو» رهبنة الآباء «السالزيان» سنة ١٨٥٩– أى منذ ١٦٠ عامًا- وجمعية المعاونين «أى أشخاص علمانيين» ملتزمين بخدمة الشباب. كما أنه أسس مع القديسة «ماريا دومينيك مازاريللو» «١٨٣٧– ١٨٨١م» راهبات مريم أم المعونة «راهبات السالزيان». وقام ببناء العديد من المعاهد لجمع أطفال الشوارع والأيتام وتعليمهم حرفة أو مهنة لكى يكونوا شبابًا صالحين فى المجتمع. لذلك فالإرسالية تحمل فى طياتها صورة الحب المعطاء للكل دون محاباة لنشر البسمة والفرحة فى القلوب وأخذ بيد الضعيف. وصلت الإرسالية لمصر فى مطلع القرن ١٧. أما راهبات «ماريا أوزيليا تريتشى» فقد تركن الأهل والأصدقاء وموطنهن الأصلى، تركن العادات والتقاليد وحضرن إلى مصر لا يحملن سوى الحب الصادق للجميع.
أولهن الراهبة «فرانشسكا أردتيو» أو «فرانكا» – كما اعتادت الراهبات منادتها- من مواليد إيطاليا عام ١٩٣٧، ولها أخ كاهن وأختان متزوجتان. التحقت بالرهبنة عن عمر ١٨ عامًا، وارتدت الثوب الرهبانى عام ١٩٥٩. وفى عام ١٩٦٠ تركت موطنها الأصلى واتجهت بطلب من الرؤساء المحبين لرعيتهم– بناءً على رغبتها– أن تخدم خارج حدود إيطاليا، فكانت أرض «مصر» لها النصيب فى استقبالها، فأحبتها وأخلصت لها. وكان أول دير أقامت به بالإسكندرية عام ١٩٦٠، واستمرت حتى عام ١٩٦٤، ثم انتقلت لدير بمنطقة «روض الفرج» بالقاهرة وذلك حتى عام ١٩٨٥، ومنها لدير بمنطقة مصر الجديدة حتى عام ٢٠٠٤ لتعود إلى الإسكندرية المحبوبة مرة أخرى حتى عام ٢٠٠٨، ثم عادت لمصر الجديدة مرة أخرى حتى عام ٢٠١١، ثم انتقلت إلى الإسكندرية والتى ما زالت بها حتى الآن.
فى البداية وجدت صعوبة فى تعلم اللغة العربية. عملت كمدرسة فى القسم الإيطالى ثم أُُسند إليها قسم الخياطة والتفصيل، واجتهدت لتكتسب اللغة العربية نتيجة احتكاكها بسائر الناس، بالإضافة إلى تكليفها بشراء مستلزمات الدير من طعام وشراب، فتعلمت العربية بطلاقة. لقد صارت الأم «فرانكا» رمز الابتسامة الجميلة المُشرقة التى تطل على الجميع كل صباح، مُرحبة ومُستقبلة الطالبات والمُعلمات والمُعلمين وأولياء الأمور، تعطى نصيحة وكلمة منفعة، تحفز وتُشجع. فأصبحت مثال النجمة المضيئة التى اتخذتها كشعار وأسلوب حياة.
الراهبة الثانية «تشيشيليا بتشجو» من مواليد إيطاليا عام ١٩٣٨، لها خمس أخوات ثلاثة منهن راهبات، وأختان كهنة وتخدمان خارج إيطاليا. توجهت إلى الشرق الأوسط وخدمت فى سوريا ولبنان ومصر. عملت كمدرسة ابتدائى للقسم الإيطالى فى بداية حضورها. تعلمت اللغة العربية فى أورشليم. ومن ذكرياتها الطفولية تعرضت للحمى الشوكية المميتة، لكن الرب– تبارك اسمه– أعطاها حياة مرة أخرى من أجل رسالة الخدمة والعطاء. عملت فى قسم الخياطة والتفصيل، واتخذت من الشعار الخاص بها وهو «حياة الفرح» أسلوب تعامل، فنظرت إلى الجميع ببساطة الطفل وعفويته. وجدت فى الناس الطيبة والبساطة وصارت تقول: «أستطيع التحدث للجميع بعفوية، فهم أُناس منفتحون ومرحبون بالكل».
من هنا- ونحن نحتفل بالعيد الستينى لهاتين الراهبتين الفاضلتين- بإمكاننا أن نوجز أسلوب خدمة «دون بوسكو» بكلمة الفرح، إنّه نابع عن اطمئنان داخلى، عن ثقة بأنّ كلّ الذين يحيطون بالفتى يحبّونه حقًّا ولا يريدون له سوى النجاح والنمو. إنّه فرح نابع أوّلًا وأخيرًا من نعمة الله التى ملأت قلب الفتى: «لنُظهِر للعالم كله بإمكاننا أن نكون فرحين بالنفس والجسد، دون أن نُهين الله». عزز «دون بوسكو» الفرح فى معاهده المختلفة بعدد لا يحصى من الأنشطة: رحلات، حفلات، رياضة، موسيقى، لثقته أنّ هذه الأمور بينما تبعث الفرح فى قلوب الشباب تشغلهم فى الوقت نفسه عن الشرّ وتسهّل عليهم التقرّب من الله بالتقوى والمحبّة.
إنه أسلوب تربوى رائع نفتقده كثيرًا فى مدارسنا وفى بيوتنا بل وفى مجتمعنا. هاتان الراهبتان الفاضلتان– فى عيد رهبنتهما– تقدمان لنا نموذجًا رائعًا من الخدمة الأمينة دون ضجيج.