رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جامعة الدول العربية.. تحدى عودة الروح


صمت جامعة الدول العربية أمام عاصفة الغضب، التى اجتاحت المشهد اللبنانى لا يفرق كثيرًا عن قائمة بيانات وقرارات المنظمة، ردًا على أى حدث عربى. مع كل أزمة عربية.. حين تبلغ التحديات والتهديدات ضرورة فرض إعادة طرح العمل العربى المشترك، ولو على أسس مجرد ما يمكن الاتفاق عليه فقط وتأجيل الملفات الأكثر تعقيدًا، فالقليل من التعاون والمواقف الجادة أفضل من البيانات والصيغ الإنشائية، تتجه الأنظار نحو جامعة الدول العربية.. تتجاذبها الآراء المتباينة بين بذل جهود لإعادة عناصر القوة والمبادرة إلى هذا الكيان العربى، وبين دعوات راديكالية لإلغائها بعدما أصبحت فى نظر البعض مجرد مؤسسة بيروقراطية محدودة الفائدة.
إعادة تقييم موضوعى وتحديد واقعى لأهداف وأطر التعاون فى وقت تبدو فيه المنطقة فى أشد الحاجة لموقف عربى قادر على الفعل وتطبيق قرارات ضامنة للاستقرار، تحديدًا مع توجه الإدارة الأمريكية إلى تقليص- بل إنهاء- دورها فى صراعات المنطقة، وتراجع دورها كضامن لفرض عملية سلام فلسطينى- إسرائيلى، تبدو الفرصة مواتية أمام الجامعة لإعادة إحياء العمل العربى، بعيدًا عن الأنماط التقليدية السابقة التى أفقدتها الكثير من المصداقية والجدية.
جامعة الدول العربية فقدت الكثير من الحضور والحسم فى فرض القرارات منذ حرب العراق عام ٢٠٠٣، وإحقاقًا للحق هذا التراجع هنا لا تحمل وزره الجامعة فقط، كما حملها العديد من الآراء المسئولية عن عدم إعادة بناء نظام إقليمى عربى فعال فى زمن تحالفات دولية حالية أعيد تشكيل أطرافها ومصالحها، رغم أن الملفات الأساسية التى تعزز بناء الخطوات وتسهم فى تفعيلها معروفة ومطروحة أمام المنظمة.. والمثال، قرارات إنشاء سوق عربية مشتركة رغم أنها مقدمة من دول أعضاء منذ عام ١٩٥٣! لكنها تبدو متسقة تمامًا مع توجه دولى يضع التحالفات الاقتصادية على رأس أولوياته، ثم طلب مصر خلال قمة عربية عام ٢٠١٥ بإنشاء قوة دفاع عربى مشترك، خطوة من المؤكد أنها قادرة على تحقيق نتائج إيجابية فى الملفات العربية الشائكة بعدما اكتوى العديد من دول المنطقة بنار التدخلات الخارجية.. هذه الملفات، فى ظل تحولات أعادت صياغة المشهد الدولى، هى الأقرب إلى الواقع حاليًا عند صياغة أى نموذج للتنسيق بين الدول العربية، أيضًا تقدم الرد الموضوعى لاستعادة الثقة المفقودة بجدوى أى شراكة عربية.. بعدما ارتبط ذكرها بفكرة رومانسية تستدعى إلى الذاكرة مقتنيات آثار المتاحف السياسية التى علاها التراب داخل واجهات العرض. كل تحولات الأحداث العربية منذ الغزو الأمريكى للعراق أثبتت أن إقامة التحالفات على أسس المصالح المشتركة هى الدواء الوحيد الذى قد يعيد الدماء إلى الجسد العربى المريض، السياسة المصرية الخارجية تبنت هذه الرؤية فعلًا منذ عام ٢٠١٣، بل نجحت إلى مدى كبير فى صياغة تقارب عربى يمثل القوى المعتدلة، ما أسهم فى تخفيف آثار خطأ ارتكبه العديد من حكام العرب سابقًا حين أنكروا التقارب العربى بدلًا من التنبه إلى خطورته كقضية أمن قومى عربى.
المؤكد أن دعوات تهميش دور جامعة الدول العربية من شأنه خلق المزيد من التعقيد، خصوصًا أن الأحداث تدفع المنطقة نحو مسار حرج مع أجواء الصراعات المسلحة والاحتجاجات التى تخيم على دول فى المنطقة.. بالتالى لم يبق أمام المنظمة بديل سوى خوض تحدى عودة الروح بآليات تعبر عن واقع سياسى دولى مختلف بعدما أصبح النمط البيروقراطى لا يحظى بقبول أو قناعة الشارع العربى.
خطورة التدخلات الإقليمية والخارجية لتحويل الصراعات المسلحة التى أطاحت باستقرار بعض الدول العربية وأفرزت عن تشكيل واقع جديد يقوم على خلق مناطق نفوذ إما أولًا: عن طريق الاحتلال المباشر- نموذج العدوان التركى على سوريا- ثانيًا: فرض سيطرة الكتل الطائفية على حساب الجذور التاريخية والسياسية التى تأسست عليها تلك الدول- كما هو واقع الحال فى اليمن والعراق ولبنان- ثالثًا: خلق مساحة فراغ عقب التدخل العسكرى الخارجى تعمها الفوضى السياسية والأمنية لتصبح مقرات مثالية لمختلف التنظيمات الإرهابية. واقع عمل عربى مشترك يستلهم برامجه من واقع الأطر والتحديات الحالية هو الترجمة الفعلية لفكرة العروبة.. فهى ليست «سوبر ماركت» نختار من بضاعته ما نريد وقتما نشاء.. بل حزمة مواقف إما نقبلها أو نرفضها.. علمًا بأن التحديات الخطيرة القادمة لم تعد تترك لنا رفاهية الاختيار بين المبادرة فى التحرك أو الجمود.