رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتفاضات العربية.. الأزمة والطريق


إذا كان هناك ما يدعو للتفاؤل بتلك الانتفاضات وضرورة دعمها فهو أن الجماهير العريضة قد قررت أن تبدأ مسيرة التغيير مهما كان الطريق غائمًا
يقول الشاعر والفقيه المتصوف جلال الدين الرومى: «عندما تقرر أن تبدأ الرحلة سيظهر الطريق»، ومع أن الرومى توفى فى أواخر القرن الثالث عشر الميلادى، ويفصلنا عنه نحو سبعمائة سنة، فإن عبارته أصلح ما تكون للنظر، بل ولتفسير ما نراه من انتفاضات على الساحة العربية فى تونس، والعراق، والسودان، ولبنان، إذ إن كل تلك الانتفاضات العارمة بدرجات مختلفة بدأت تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية شديدة الوطأة، ولم يكن المسار أمامها واضحًا وهى تبدأ، لكنها قررت أن تبدأ الرحلة، ربما يتضح الطريق فيما بعد خلال الاشتباكات مع القوى المهيمنة.
أظن أن ذلك هو ما حدث أيضًا فى انتفاضة يناير ٢٠١١، فقد دفعت الضغوط الاقتصادية والسياسية إلى انفجار، قرر أن يبدأ الرحلة دون أن يلوح طريق محدد، ذلك أن الشعارات العامة الفضفاضة «عيش، حرية، كرامة إنسانية» لا تقدم فى واقع الأمر سوى صياغة عامة للأحلام الشعبية دون أن تمثل برنامجًا سياسيًا أو اقتصاديًا أو دليلًا إلى حركة واقعية، لذلك كان التركيز فى معظم تلك الحركات على الإطاحة بشخص الرئيس وليس الإطاحة ببرنامج سياسى واقتصادى.
ومن البديهى أن الإطاحة ببرنامج تستدعى تقديم برنامج آخر بديل على كل الأصعدة، بينما لم يتوافر، ولا يتوافر بعد، للانتفاضات برنامج واضح، ما عدا أنها تقف ضد كل مظاهر استغلال الشرائح الفقيرة لصالح قلة من الأثرياء، وتتقاسم الانتفاضات العربية هذه الملامح مع انتفاضات أخرى فى العالم، كما حدث فى فرنسا منذ فترة، وفى تشيلى، وغيرهما، حيث قرر الجميع أن يبدأوا الرحلة دون أن يظهر الطريق.
وإذا كان هناك ما يدعو للتفاؤل بتلك الانتفاضات، وضرورة دعمها، فهو أن الجماهير العريضة قد قررت أن تبدأ مسيرة التغيير، مهما كان الطريق غائمًا، وأن الأمل معقود على أن الناس سوف يتعلمون من خبراتهم العملية، وتعثرهم ونهوضهم خلال المقاومة، ويبقى السؤال عن مآل تلك الانتفاضات، وعمّا قد تحصده من ثمار، وما قد تحققه، دون طريق، أى برنامج يمكن للانتفاضات المتعاقبة أن تتبناه فى مواجهة نظام رأسمالى عالمى يحكم بواسطة صندوق النقد والبنك الدولى والشركات العابرة للجنسيات؟.
فى الستينيات حتى سبعينيات القرن العشرين كان هناك مشروعان، أو برنامجان سياسيان مطروحان على شعوب العالم الثالث «التحرر القومى من الاستعمار، كما فى نموذج جمال عبدالناصر، والاشتراكية، كما فى النموذج السوفيتى أساسًا»، وقد جرفت مياه كثيرة أسس البرنامجين، فلم يعد من الممكن الآن أن تثير حماسة أحد بالحديث عن الاشتراكية، بصفتها برنامجًا، وأنت تتجاهل جوانب الضعف التى أدت لانهيار التجربة.
مطلوب مراجعة شاملة ونزيهة للتجربة قبل أن تصبح الاشتراكية مرة أخرى برنامجًا يتبناه الناس، بينما لا توجد حتى الآن قوى- حتى على المستوى الفكرى- قادرة على تلك المراجعة، من ناحية أخرى فإن كل عوامل الفكر التى ساعدت على تطور مصر وشعوب العالم الثالث كانت ترد من أوروبا، كما جاءت كل الفلسفات من هناك «الوجودية والماركسية والوضعية المنطقية.. وغيرها»، كما أن أزمة البرنامج أزمة عالمية ولا تقتصر فقط على شعوب العالم الثالث، ومن ثم فإن تجديد أو إحياء أو العثور على برنامج سياسى واقتصادى للانتفاضات مرتبط إلى حد كبير بظهور مجموعة من المفكرين الأوروبيين القادرين على حل معضلات ومشكلات البرنامج الذى جرت الاستعانة به من قبل.
أيضًا ما زال من الصعب على الانتفاضات أن تبلور برنامجها الخاص، نظرًا لطبيعة النخبة السياسية، التى يقتصر نشاطها فى ظل الحصار على التنوير الذى يتفادى الصدام، لذلك كله فإن الانتفاضات تظل تنزع الطاغية لتُحل محله طاغية آخر، طالما أنه ما من برنامج اقتصادى، اجتماعى، محدد، قادر على مواجهة الهيمنة الرأسمالية العالمية، التى هى مشكلة شعوب العالم الثالث، بل وشعوب أوروبا أيضًا، لكن المؤكد أنه كلما اشتدت الضغوطـ وتوالت الانفجارات فإن الطبقات الشعبية ستتعلم كيف تضع برنامجها، رغم الثمن الباهظ للتجربة، وسيبدو أن الطريق، الذى يتضح يومًا بعد يوم غارق فى الضباب، لكن ليس أمام الناس سوى عبارة جلال الدين الرومى: «عندما تقرر أن تبدأ الرحلة سيظهر الطريق».