رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حديث المنفضة

جريدة الدستور



نفض ذو الجلباب بدن سيجارته المحشوة، دافنًا لحمها المحترق فى تراب منفضة عتيقة تحمل صورة كليوباترا ويفوح منها عَطنٌ مُعتق، وأعاد على جليسه عبارته الـمُكررة من جديد، مُغلَّفةً بسحاب دخان عبِق: «احكِ لى الأمر من بدايته».
رمقه الآخر باندهاش، وباستسلام كرَّر عليه القصة للمرة الرابعة، منذ استيقظ صباح يوم ميلاده، شاعرًا بثقلٍ غير مفهوم، فدفن قدميه فى نعله الشتوى، قبل أن يتسرَّب منهما دفء الجورب الـمُتدلّى، وجذب جسده قائمًا، وتسنَّد على جمادات الغرفة حتى بلغ التسريحة، فقرأ رسالة مهتزة الأحرف ألصقتها زوجته فوق المرآة، كما تفعل كل مرة صبيحة عيد ميلاده، طالما لم يوافق يوم عطلة.
كان ناسيًا، وذكَّرته الرسالة، فقرَّر أن يحلق لحيته التى حلقها قبل يومين، بصورة استثنائية وبموسى جديد احتفالًا بهذه المناسبة، أمام مرآة الحمام، أسبغ على أصابعه رغوةً أكثف من المعتاد، وبادر بطلاء وجهه بنعومتها الغنيَّة، عندما لاحظ اهتزاز رؤيته بشكل غريب، لسببٍ لم يعُد مفهومًا بعد أن أفاق تمامًا من سكرات النوم، أضاء مصباح المرآة، وأمعن النظر فى انعكاسة وجهه، فإذا به يلتقى وجهًا غير الذى يألفه؛ وجه رجل فى السبعين، بينما لم تكَد قدمُه تجاوز عتبة الخامسة والثلاثين إلا اليوم، جفل لبرهة، ومسح عن وجهه الرغوة بمنشفة طوَّقت عنقه، ودقَّق النظر الذابل من جديد.. وجنتان تهدَّلتا، وعينان ضاقتا ذرعًا من طول ما أسرتهما التجاعيد، سارع إلى غرفته، بعدما أعاد إليه الرعب خفَّته المعهودة، وقف فى منتصف الغرفة لا يعرف بأى بادرةٍ يبدأ، تطلَّع إلى نتيجة كانت مُختبئة خلف علبة المكياج الخاصة بزوجته، اضطُرَ إلى نزع وريقات ذابلة لم تعُد تنتمى إلى الحاضر، قبل أن يُطالع يوم ميلاده، مرقومًا ومُقبضًا؛ نفس اليوم الذى عرفه طيلة عمره، عمَّ يبحث إذًا؟! استسخف نفسه، ولكن القلق لم يُزايله ولو قيد أنملة.. استخرج بطاقته الشخصية من محفظته، وطالع بياناتها المعتادة كالأبله، عاجزًا عن تحديد ما يبحث عنه، لكنه تأمَّل الرقم القومى مرارًا، مُدركًا من الوقت أنه المقصود، الأرقام كما يعرفها منذ أمد، ما الجديد إذًا؟! الجديد أن الفارق بين سنة الميلاد التى يُفصِح عنها الرقم القومى، وتلك التى تكاد تذبل على ورقة النتيجة، سبعون عامًا؛ هى ذات الأرقام التى يعرفها عن ظهر قلب، لكنه ليس الفارق نفسه، كيف؟ لا يدرى؟! ما يعرفه يقينًا هو أنه حتى نام، أمس، كان موقنًا بعمره.. خمسة وثلاثون عامًا لا أكثر، تنقصها ليلة حتى تكتمل، ولم تكن هذه الغضون تُغلِّف قسماته، ولا كانت وجنتاه مُستسلمتين لجاذبية الأرض على هذا النحو، ولا أوصاله مفكَّكةً لهذه الدرجة.. سرٌّ غامض يُغلِّف الوجود الآن، والحياة ما عادت تشبه ما كانت عليه بالأمس.
اتَّصل بزوجته يخبرها بمصيبته، فلم تقنعها نبرته المرتعدة بجديته، قالت إنها تجمع أغراض مكتبها بين نوبة بكاء وأخرى، ولا ينقصها المزيد من العبث، وهى التى ستحال إلى المعاش بعد أيام، اتصل بأقرب أصدقائه، فإذا برقمه غير موجود بالخدمة، هاتَفَ منزله، فردَّ عليه شاب فاقد الذوق، سرعان ما اتهمه بالجنون بعد أول عبارة، ووضع السماعة بوقاحة وصلف.
عاد إلى النتيجة والبطاقة، يحاول الإمساك بتلابيب عقله قبل أن يُفلت منه؛ الأرقام كما عهدها، والفارق ضعف الـمُعتاد؛ كيف؟ كان شابًّا بالأمس، هذا مؤكد، لم يكد ينسى آخر مباراة كرة لعبها مع زملاء العمل، والجميع يؤكدون عكس ذلك؛ يقولون إنه عاش حياته طولًا وعرضًا، ويريد الآن أن يتنصَّل من سنين قضاها، وطرُقات وطأها، ومذاقات استحلبها، هو لا يُنكِر كُليَّةً، ولكنه لا يفهم، لا يوقن بشىء، ويخشى انقضاء الحياة دون أن ينال حقَّه كاملًا.
عاد ذو الجلباب مما بدا غيبوبةً طويلة، وأطلق عبارة مدغمة بين دفقات الدخان:
«وماذا لو وافتكَ المنية وأنت فى الخامسة والثلاثين.. أليس جائزًا؟»
«نعم جائز.. من منا يعرف عمره!»
«فعن أى حقٍّ تبحث إذًا؟»
«عن حقى فى سنوات احتُسِبت علىَّ بالخطأ! قد أتقبل الموت لسبب أو لآخر، فى أى سن كانت، هذا قدر لا حيلة لى معه، ولكن ساعتها سأموت شابًّا، لا علىَّ إلا ما عشتُ بالفعل، لا أحمل إلا عمر زهرة اجتُثَّت عن طريق الخطأ.. ولكن، أن يصيبنى الذبول فجأةً هكذا، وأُطالبُ بتقبل الأمر... كيف؟!».
دفع الدخان ناحيته من جديد، وهو يتأمل وجهه الذابل وحدقتيه المتوتِّرتين، ودفن سيجارته فى مقبرتها الفرعونية العطنة، وأشعل غيرها قائلًا:
«الحياة عبء لا يُحتمل، فعلامَ التمسُّككَ بها؟.. سلنى أنا، فأنا أقضى بين المقابر أطول مما أمكث فى بيتى، وأتابع الأجساد التى يحتويها التراب، فتنعم بالهدوء والسكينة لأول مرة بعد عمر من المعاناة».
«ولكنى ما زلت شابًّا، هكذا أعتقد، ولم أجد السعادة بعد، ولا وجدتُ إجاباتٍ لأسئلة كثيرة!».
«وهل تظن أن غيرَكَ وجد الإجابات؟ يا مسكين.. بل إننا جميعًا مساكين، ننشغل بتفاصيل لا معنى لها، ثم نفاجأ آخر الأمر بأن فرصة البحث عن إجابات قد تسرَّبت منا.. ها أنت تشغل أيامك الأخيرة بالدفاع عن حق لا معنى له، وتزج بنفسك فى أزمة لا يمكن الخلاص منها».
«يبدو أنك مثلهم، لا تصدقنى».
«ليس هذا، ولكن الأمور ستستوى لديك نهاية الأمر؛ ستخفت من حولك الضوضاء، وتنتقل إلى عالم الإجابات رأسًا».
شرد الجليس برهة وقد امتدَّت ظلال الدخان فوق جبهته، حتى أردف قائلًا: «أخشى أن أندم أنى فوّتُ فرصة المطالبة بحقى فى الحياة!».
«أظنك ستكتشف عندها أن الحقَّ فكرةٌ غير موجودة خارج أدمغة الناس، وُجِدَت نتيجة الصراع على الحياة، وتنتهى الحاجة إليها مع نهايتها».
«أفهم من كلامكَ أنك تُفضِّل أن أستعيد مقدَّم التعاقد على الشقة الجديدة، وأشترى المدفن؟!».
فغر ذو الجلباب شفتيْه عن نصف ابتسامة، وعلَّق ساخرًا: «قبل ساعة، كنت سأنصحكَ بذلك، لأن لى مصلحةً مباشرة فى شرائك المدفن، أما الآن، فأريد أن أصدقكَ القول فحسب؛ لا فارق.. تخلَّص من أعبائك ومن أفكارك البائسة، عِش يومكَ غير آملٍ فى الغد، واترك النتيجة للمجهول..».
«وإن متّ، أين أُدفن؟!».
طوى ذو الجلباب عقب السيجارة فوق مقدمتها، ونفث دخانًا كان يحتفظ به داخل صدره، وقال: «ربما تعنى: أين سيُدفن جسدكَ الذى ستتخلَّص منه؟.. وعن هذا لا تقلق، سيجدون له مكانًا آمنًا يُخلِّصهم من رائحته، لا تشغل بالك».
ومدَّ ناحيته سيجارةً، قبِلها أخيرًا.