رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"حقيبة الرسول" رواية برأس واحدة وعدة أرجل

جريدة الدستور

أن يطرح عليك العمل الأدبى سؤالا خير لك من أن يمنحك ألف جواب؛ هذا ما تشعر به وأنت تقرأ رواية "حقيبة الرسول" للقاص والروائي محمد صالح البحر، تلك الرواية التى يصعب تصنيفها؛ فقدرة الكاتب على التخفى كفيلة بأن تجعلك فى حيرة كبرى لتسأل نفسك هل هى رواية صوفية تتحدث عن ولى طلّق الدنيا بالثلاثة، ثم صعد إلى سن الجبل ليناجى ربه؟ أم هى رواية نفسية لرجل أصابته النكسة بشرخ فى الذات أفقده رجولته وذكورته؟ أم هى رواية فلسفية تتحدث عوالم مختلفه وأفكار متشظية؟ أو أنها رواية واقعية بسيظة تدور فى قرية بمحافظة قنا، ولم يكن التناص فيها مقصودًا؟.. كل هذه الافكار التى تتوالد فى عقلك تجعلك أكثر فضولًا لمعرفة السر، ومحاولة الكشف عن أصلها وفصلها وفهم مقاصدها وفك شفراتها.

وإذا بدأنا من عتبات النص؛ العنوان "حقيبة الرسول" وهو عنوان يثير سؤالًا مدهشًا من هو الرسول؟ وهل هو رسول من عند الله أم رسول من عند البشر؟ وهل المقصود به هنا هو خليل الله ابراهيم؟ حيث كان بطل الرواية يحمل نفس الاسم، بل كان لولده نفس اسم سيدنا اسماعيل ابن سيدنا ابراهيم عليهما السلام، وكذلك زوجته التى غير اسمها من صفيه إلى هاجر.

ولكن وبرغم التناص فى الأسماء وقصة الذبح إلا أن القصة غير مطابقة لقصة الخليل، بل أن الكاتب ذكر شيئا من قصة النبى محمد صلى الله عليه وسلم على لسان بطل روايته حين قال لزوجته زملينى. وكأن الكاتب يريد الافلات من قبضة التشابه.

أما العتبة الثانية فكات لشكل الغلاف الذى جاء على هيئة رجل يرتدى جلبابًا عربيًا، ويحمل حقيبة على ظهره ممسكًا بعصا تجمع بين ساعديه وكأنها غصا موسى عليه السلام.. وإذا أمعنا النظر فى الغلاف سنجد الرجل العربى يمشى فى الصحراء رافعا رأسه إلى السماء. وكأنه ذاهب إلى ربه، وفى هذا دلالات تخدم النص.

أما العتبة الثالثة فهى الإهداء الذى كان لمريم حبيبة اسماعيل، والتى تمثل دور الشخصية المتمردة على افكار قبيلتها فى صعيد مصر؛ إذ رفضت الزواج من ابن عمها كسرًا للعادات، ثم انزوت فى غرفة بالبيت ترقب اسماعيل وهو يجاور والده فوق الجبل، فدفعتها جرأتها لأن تصعد إليه لتخبره بحبها، غير أن المرض ورفض الأب وقفا حائلا بينهما، ولكن فى النهاية انتصر حب اسماعيل لمريم.

نلاحظ هنا أن الاهداء كان مصحوبًا بالترقيم صفر، وبالقطع لم يكن الأمر عبثا أو غير مقصود من الكاتب، بدليل أن الصفحة الأولى بعد الاهداء كانت تحمل رقما واحدا.

تدور الأحداث فى صعيد مصر؛ حول ابراهيم الشاب المتعلم الذى خرج من النكسة مهزوما مأزوما لا يقدر على فعل شئ، ولأنه أراد أن ينتصر على ضعفه استسلم لنداءات بنت الشيخ موسى، لكنه لم يجد ما يقدمه لها، ورغم ذلك اتهم بأنه والد الجنين الذى حملته سفاحا فى بطنها؛ لذا رفض الزواج منها بعد الفضيحة المدوية التى أكملت على ما تبقى منه.

بعد أيام قليله قام أهل الفتاة بقتلها للتخلص من عارها، وهنا يرصد الكاتب عادة من عادات أهل الصعيد وهى قتل الزانية التى جلبت العار على أهلها، ثم يرصد محاولات أهل الفتاة لقتل ابراهيم لكنهم لم يفلحوا، فاعتبروا ذلك أمرا ربانيا يؤكد براءة ابراهيم وحفظه من قبل الله، ولأن ابراهيم هام على نفسه ظنوا انه اضحى وليا من أولياء الله الصالحين فتركوه.

تزوج ابراهيم ابن الأكابر من صفية بنت الأجير، ودعاها هاجر لكنه لم يقدر على تجاوز عجزه لسنوات، وذات مرة أخذها إلى خلوته حيث "سن الجبل" وبعد تسعة أشهر جاء اسماعيل.

نلاحظ هنا التناص الواضح فى الأسماء وفى عدم القدرة على الانتقام من ابراهيم؛ وكأنه يذكرك بالنار التى كانت بردا وسلاما على ابراهيم الخليل عليه السلام.

تتصاعد الأحداث ويكبر اسماعيل ويرى والده أنه يذبحه، لكن رؤيا الخليل من الله بينما وضح المؤلف أن ما رآه بطل روايته كان كابوسا، غير أن النهاية كانت واحدة فى ذبح الخروف.

يكبر اسماعيل ويحب مريم غير أن والده يرفض. يموت الأب ثم يعود من الموت بعد أربعين يومًا.. والرقم تذكرك بتلك الأربعين التى قضاها موسى عليه السلام فى مناجاة ربه.

ألقى الكاتب الضوء على أفكار القرية المصرية فى صعيد مصر؛ مبينا بصورة جلية العادات والتقاليد وأثارها على شخوص الرواية.. كما كان المكان بطلا فيها؛ "سن الجبل" الذى شهد مناجاة ابراهيم وشهد لقاءه ببنت الشيخ موسى ولقاءه بصفية ولقاء اسماعيل بمريم. وكذلك "النهر وحقول الذرة".

جاءت الرواية التي صدرت طبعتها الأولى من عن دار العين عام 2010، ى 134 صفحة لا تخلو من الدهشة بأسلوب جمع فيه الكاتب بين الرصانه والبساطة، ولا شك أن الرواية بعوالمها وشخوصها المتنوعة تحتمل أكثر من قراءة، وهو حال روايات محمد صالح البحر اللاحقة، ومنها "موت وردة"، و"نصف مسافة".