رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حدث هذا منذ عقود سبعة «1»


مفارقة شخصية ذات دلالة. احتفلت جمهورية الصين الشعبية منذ أيام بمرور سبعين عامًا على تأسيسها، ومن «محاسن الصُدف»، بالنسبة لى، أن الجمهورية الشعبية الصينية وأنا وُلدنا فى عام واحد منذ سبعة عقود.
والمقصود أن هذه الدولة الجبّارة، كمًا وكيفًا، قد استطاعت فى مدى زمنى قصير، لا يتجاوز عمر إنسان واحد، أن تصعد من متاهات التاريخ إلى مفازات المستقبل، بجهد هائل وذكاء نادر، يصح، بل يجب التعلُّم منه، دون أن نتصور، أو نتوهم أنها تجربة مثالية، خالية من المآخذ أو الأخطاء، فهى تجربة إنسانية صاحبها ما تصاحب كل التجارب الإنسانية من ظروف وتقلُّبات، وسلبيات وإيجابيات، كما أنها تجربة شديدة الخصوصية، اعتمدت على همّة شعب ذى تقاليد وتراث تاريخيين مميزين، ومن هنا فلا إمكانية لنقلها، أو نسخها، فلكل تجربة ظروفها التاريخية والاجتماعية الخاصة، ومخزون خبراتها وثقافتها الذاتية، التى تفرض مقاربة مُغايرة، وإن كان من المُهم التعلُّم من الخبرات المُتراكمة للشعوب الأخرى، واستلهام مضامين التجارب الناجحة، والاستفادة من دروسها.
والمدهش المعلوم أننا نتحدث عن دولة هى الأكبر عددًا فى تاريخ البشرية، بعدد سُكانها البالغ نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة، أى ما يقرب من ١٤ ضعف عدد سُكّان مصر، ومع هذا فهم تعاملوا مع هذه الحقيقة، لا باعتبارها «بلوى» أو «نقمة» أو حملًا ثقيلًا يُجهد المسيرة، وإنما باعتبارها مصدرًا للقوة ومضاعفة الإنتاج والتقدم. فأصبح هذا العدد الهائل الطاقة المُحرِّكة لتروس أكبر مصنع فى العالم، يمضى نتاج عمله بقوة غير مسبوقة، لكى يغزو العالم كله، بل يهدد الإمبراطورية الأمريكية، المُتربعة على قمة العالم، وينازعها على موقع الصدارة.
والذى ينظر إلى تاريخ الصين القريب ويراجع محطاته، يزداد تقديرًا واحترامًا لهذه التجربة الفريدة. فلقد سيطرت القوى الاستعمارية الغربية «وبالذات بريطانيا وفرنسا» على مصائر هذه الدولة- القارة- ولجأت إلى أحط الأساليب لإدامة هيمنتها واستغلالها، ومن هذه الأساليب نشر مُخدِّر الأفيون فى البلاد، والتشجيع على زراعته وتعاطيه بشتّى الطُرق، وفى كل المستويات، لكى يظل الشعب خاملًا عاجزًا عن المقاومة. وخاضت الإمبراطوريتان حربين مُدمرتين لفرض هذا المنهج الخسيس على الصين، حتى أصبح فى الصين، مع مطالع القرن الماضى، ما يقرب من مائة وخمسين مليونًا من المتعاطين المدمنين.
ومن هنا احتاجت صحوة العملاق الصينى، فى المقام الأول، إلى تخليص الشعب من هذا الوباء، وقد قاومت الصين بكل قواها الحيّة، من السلطة الإمبراطورية حتى المواطن العادى، هذا التدمير المُنظّم لقواها الحيّة، لكن توازنات القوى لم تسمح بالخلاص من شروره إلا على يد الزعيم الصينى التاريخى «ماو تسى تونج»، الذى شارك فى تأسيس «الحزب الشيوعى الصينى» عام ١٩٢١، ثم تزّعمه بعد نحو خمسة عشر عامًا، وقادا معًا: الحزب والزعيم، نضال الشعب الصينى الأسطورى، عبر «مسيرة طويلة» من الكفاح والتضحية والبسالة والصبر على الأذى والمكاره، فى مواجهة «كوكتيل» من القوى المُعادية: إنجلترا وفرنسا واليابان الفاشية وغيرها من الدول الطامعة، إلى أن انتصر كفاح الشعب، وأعلن عن تحرير الإرادة الصينية، وتأسيس «جمهورية الصين الشعبية» فى الأول من شهر أكتوبر عام ١٩٤٩. كانت الصين حين تأسست جمهوريتها الحديثة، منذ سبعة عقود، أنقاض دولة مُحطمة، منزوعة القدرة، مُفككة الأوصال، لكن إرادة النهوض من الكبوة، واستعادة أمجاد الماضى. «فالصين ومصر هما الحضارتان التاريخيتان اللتان تملكان هذا السجل الحضارى المُبهر فى العالم كله، الذى يمتد فى عمق التاريخ لأكثر من خمسة آلاف عام»، حققت الذى كان يبدو مستحيلًا، حتى تمت تلك «المعجزة» التى لم تصنعها كائنات خرافية، أو قوى خارقة لقوانين الطبيعة، وإنما صنعها بشر مثلنا. فكيف حدث هذا؟.