رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السد.. الـ«بارانويا» والحرب!


التصريحات التى نقلتها وكالة «أسوشيتد برس» عبثية ومضحكة، ولا يمكن أن تسبب ضيقًا أو قلقًا إلا لمؤيدى أبى أحمد على، رئيس الوزراء الإثيوبى، الذى نعتقد أن الوكالة أرادت إظهاره كما لو كان مصابًا بـ«عقدة الاضطهاد» وهو يرد على أسئلة نواب البرلمان الإثيوبى بشأن عدد من القضايا، بينها سد النهضة!
عقدة الاضطهاد، جنون الارتياب، الذهان الكبريائى أو البارانويا Paranoia، مرض أو اضطراب نفسى يؤدى إلى اعتقاد المريض بأنه يتعرض للاضطهاد والتهديد والملاحقة من الآخرين، ويقوم بتفسير أى سلوك للآخرين بما يتسق مع هذا الاعتقاد، وغير تصريحات «أبى أحمد» عن «سد النهضة»، أدهشنا أيضًا ما نسبته الوكالة له بشأن جائزة نوبل للسلام، التى سيتسلمها فى العاشر من ديسمبر المقبل، إذ لم نجد مبررًا أو تفسيرًا غير إصابته بـ«عقدة اضطهاد» لقوله: «بعض الأشخاص يجدون صعوبة فى قبول فوزى بجائزة نوبل للسلام، لقد مُنحت بالفعل إلى أبى، ولن يتم أخذها منه، الأمر كذلك.. إنها مسألة منتهية».
ضد المنطق وضد العقل أن يعتقد الرجل أن هناك منْ يريد انتزاع الجائزة منه، وضد المنطق والعقل أيضًا أن يعتقد أنه بـ«تجهيز الملايين» أو «استخدام القنابل» يمكنه صد هجوم، سيكون قطعًا جويًا، لا قدّر الله، كما أنه لم يحدث أن لوّحت مصر، أو غيرها، باستخدام القوة بأى شكل، حتى يرد صاحب نوبل بقوله: «البعض يتحدث عن استخدام القوة، لا بد من التشديد على أنه لا قوة يمكنها وقف إثيوبيا عن بناء السد».. أو بقوله: «يمكننا تجهيز الملايين، وإذا كان بوسع أحدهم إطلاق صاروخ، فالآخرون يمكنهم استخدام قنابل».
ما نقلته «أسوشيتد برس» تضمّن كلامًا عاقلًا عن كون «المفاوضات وحدها هى القادرة على حل جمود الموقف الحالى»، غير أن هذا لا يكفى لتصديق أن باقى كلام الرجل لم يطله التحريف، الذى جعله أقرب إلى التخريف، وعليه، نرى أن وزارة الخارجية تعجلت حين أعربت، فى بيان، عن «صدمتها ومتابعتها بقلق بالغ وأسف شديد التصريحات التى نُقلت إعلاميًا منسوبة لرئيس الوزراء أبى أحمد أمام البرلمان الإثيوبى، إذا ما صحت»، مع تسليمنا بوجاهة أن تتعجب الخارجية المصرية فى المطلق، وأن تبدى دهشتها بشكل عام، من أى طرح يتناول خيارات عسكرية، باعتباره مخالفًا لنصوص ومبادئ وروح القانون الأساسى للاتحاد الإفريقى.
الثابت فعلًا هو أن مصر لم تتناول هذه القضية فى أى وقت إلا من خلال الاعتماد على أُطر التفاوض وفقًا لمبادئ القانون الدولى والشرعية الدولية، وحرصت دومًا على التفاوض كسبيل لتسوية الخلافات، بكل شفافية وحُسن نية، لكن الجانب الإثيوبى، خلال جولات المفاوضات، التى استمرت سنوات، رفض التعامل بمرونة مع مقترحات تستند إلى بنود اتفاق المبادئ، الذى تم توقيعه فى مارس ٢٠١٥، وإلى مبادئ القانون الدولى الحاكمة لإدارة واستخدام الأنهار الدولية، «وجدنا الأنسب أن تكون هناك وقفة، فى وجود وسيط دولى»، كما قال الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء، فى بيانه أمام مجلس النواب.
لم تلوح مصر باستخدام القوة أو تبدى أى رغبة فى اللجوء للخيار العسكرى، بل على العكس أعلنت بوضوح عن ترحيبها بكل جهد دولى للوساطة، سعيًا إلى التوصل لاتفاق مُرضٍ للجميع، ورحّبت بتصريحات الإدارة الأمريكية التى طالبت فيها الأطراف الثلاثة بإبداء حُسن النية للتوصل إلى اتفاق يحترم بموجبه كل طرف حقوق الطرف الآخر فى مياه النيل، وتأكيدًا لحرصها على كسر الجمود الذى يكتنف المفاوضات، واتساقًا مع سياستها الثابتة لتفعيل بنود اتفاق إعلان المبادئ، قبلت مصر، على الفور، الدعوة التى تلقتها من الإدارة الأمريكية لاجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث فى واشنطن.
منذ ساعات، افتتح الرئيسان المصرى والروسى أعمال القمة الإفريقية الروسية، ومن المنتظر أن يجتمع الرئيس عبدالفتاح السيسى، بعد كتابة هذه السطور، مع رئيس الوزراء الإثيوبى، على هامش القمة التى يستضيفها منتجع سوتشى المطل على البحر الأسود، ونتمنى ألا يكون لـ«السواد» مكان فى المحادثات، وأن يتم الاتفاق على مشاركة طرف أو وسيط رابع فى المفاوضات، البنك الدولى أو أى دولة لديها خبرة فنية بشأن مسائل تقسيم حصص المياه، يمكنها أن تقوم بتقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث، وأن تلزم الجانب الإثيوبى بمبدأ عدم الضرر، الذى تعهد به فى إعلان المبادئ، الذى نص أحد بنوده أيضًا على جواز طلب الوساطة الدولية.
الولايات المتحدة، على الأرجح، قد تكون هى الطرف الرابع، وإن كان هناك ما يقطع بأنها طرف أساسى ورئيس منذ البداية، وفى كل الأحوال، نتمنى أن تحرز وساطتها تقدمًا قبل حلول مايو المقبل، الذى ستشهد خلاله إثيوبيا انتخابات واضطرابات و... خلافه!