رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إن الإخوان إذا دخلوا دولة أفسدوها


جاء عام ١٩٩٢ وكانت شعبية مبارك عند حدها المعقول، وأعضاء جماعة الإخوان فى قمة الانسجام والتحالف مع مؤسسات الحكم، فقد دخلوا النقابات المهنية وبدأوا فى السيطرة عليها، وأخذوا يفرضون نفوذهم على بعض الأندية الرياضية الكبرى وسيطروا على آلاف المساجد فى كل مصر لا ينافسهم فى ذلك إلا السلفيون من آل الحوينى ويعقوب وحسان، ودخلوا بالهناء والشفاء فى معظم مؤسسات الدولة، وهكذا دواليك، فظن الإخوان أن الأيام رخاء، ولكن مأمون الهضيبى كان له رأى آخر.
لم تكن قضية سلسبيل الشهيرة قد ظهرت فى الأفق بعد، ولم يجر فى خاطر أحد من الإخوان أن الأيام دِوَل، وأن دولة الإخوان ستدخل فى مشاكل جمة مع دولة مصر، وأن مبارك سيحيل قياداتهم، المجموعة وراء المجموعة، إلى المحاكمات العسكرية بهدف قصقصة ريشهم وإضعاف قوتهم ليس إلا، ولكن مأمون الهضيبى كان قد تعلم من أبيه حسن الهضيبى أن التحالفات لا تدوم، والصداقات لا تمتد، والصفقات لا تستمر، لذلك قرر الهضيبى الابن أن يكلف عددًا من الإخوان النقابيين بإعداد دراسات موضوعها: «الإخوان ومبارك بعد انتهاء التوافق»، وبالفعل عكفت مجموعة من الباحثين على إعداد تصوراتهم عن ماذا يجب أن يفعل الإخوان عند انتهاء التوافق مع مبارك ونظامه؟ وتبادل الباحثون فيما بينهم بعد ذلك الأبحاث ليقرأ كل واحد منهم ما كتبه الآخرون، ثم تم عقد ورشة عمل فى مدينة رأس سدر، حيث تم الاتفاق مع بعض الإخوان الذين يعملون فى شركة سياحية حكومية كبرى تمتلك عددًا من الفيلات الضخمة على شاطئ مدينة رأس سدر، على استئجار أكبر «فيلا» على البحر لتكون مقرًا لورشة عمل تستمر يومين، وانعقدت الورشة، إلا أن خبرها وصل إلى مكتب مباحث أمن الدولة فى رأس سدر فكانت المداهمة.
لم تكن المداهمة المباحثية للمكان مثل المداهمات التى حدثت للإخوان بعد ذلك، ولكنها كانت سهلة وبسيطة وكأنها زيارة ودية من أصدقاء لأصدقاء، وفى هذه الزيارة طلب العقيد القائم على أمر المداهمة أن يصطحب معه لمكتبه أحد الحاضرين من الإخوان للتفاهم بشأن وجودهم فى المكان، فذهب معه واحدٌ من شباب الإخوان البارزين وقتها، حيث أصبحوا عجائز بعد ذلك، ولم يستغرق الأمر أكثر من ساعة، عاد القيادى الإخوانى الشاب بعدها لإخوانه وأخبرهم بأن أمن الدولة كان عاتبًا عليهم أنهم لم يستأذنوهم قبل المجىء لرأس سدر، وهذا الوجود المفاجئ لهم سببّ حرجًا كبيرًا لمكتب رأس سدر، وأخبره القيادى الشاب بأنها رحلة استجمام عادية، لذلك لم يفكروا فى إخبار أحد أو استئذان أحد، وبأنهم يقضون وقتهم فى عمل جلسات عصف ذهنى تستهدف البحث عن حلول لمشاكل وأزمات مصر، وانتهى الأمر على ذلك، إلا أن الورشة بطبيعة الحال لم تكن بخصوص البحث عن حلول للأزمات، ولكنها كانت عن كيفية صنع الأزمات والمشاكل للدولة، وبعد عودتهم من معسكرهم أصدر الهضيبى قرارًا بعقد جلسة موسعة بينه وبين هؤلاء القيادات ليناقشهم فيما انتهوا إليه، وانعقد اللقاء وانشرح صدر مأمون الهضيبى بما وصلت إليه القيادات الشابة، وكان الطرح الذى تبلور فى صيغة نهائية هو إعداد لجنة تتبع مأمون الهضيبى بشكل مباشر بعيدًا عن كل أقسام الجماعة، تكون مهمتها صنع أزمات للنظام، واستغلال الأزمات القائمة، وتوجيه العقلية الجمعية للجماهير ناحية السخط من النظام، وبدأت الجماعة فى تنفيذ خطتها، وفى بداية تنفيذ خطة استغلال الأزمات صنعت الظروف حدثًا مهمًا فى تاريخ مصر اعتبره الإخوان فارقًا بالنسبة لهم فى خصوص قدرتهم على الانتشار وسط الجماهير وإظهار النظام بمظهر المُقصر الفاسد، وكان هذا الحدث هو زلزال أكتوبر عام ١٩٩٢ الذى استطاع الإخوان استغلاله لصالحهم وضد النظام بامتياز.
كان ذلك عندما استطاع الإخوان الوجود فى المناطق الشعبية المنكوبة جراء الزلزال، وقدموا للمضرورين خيامًا يقيمون فيها، وكتبوا على الخيام عبارة مأخوذة من حديث هى «كان الله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه» وأسفلها توقيع الإخوان وشعار المصحف والسيفين، الغريب أن الحكومة لم تمانع فى ذلك، بل كانت تأخذ من الإخوان خيامهم وتقوم هى بتوزيعها فتتحمل الحكومة مشقة التوزيع، وينال الإخوان الشهرة، وبعد ذلك بدأت فعاليات أخرى متعلقة بتحويل الإنجازات إلى كوارث، وكان أول عمل بدأه الإخوان فى هذا الخصوص هو قضية طابا التى كانت مصر قد استردتها عام ١٩٨٩ عن طريق التحكيم الدولى، وكانت لجنة التحكيم المصرية على أعلى مستوى من الحرفية والقدرات، ولما كانت خطة الإخوان بُدئ أصلًا فى تنفيذها بعد استرداد طابا بأربع سنوات، لذلك كان المستهدف منها هو تشويه القضية نفسها وتحويلها إلى قضية فساد، وإظهار طابا بصورة البؤرة التى سيستغلها اليهود لنشر الدعارة والمخدرات، وأن بقاءها تحت سيادة إسرائيل كان أجدى لمصر بدلًا من الإنفاق عليها، ثم أخذ الإخوان يشيعون فى جريدة حزب العمل وفى جرائد حزب الأحرار التى كانت تحت أيديهم، مثل جريدة الأسرة العربية وجريدة آفاق عربية، بأن المحكمين تقاضوا أتعابًا من مصر قدرها مليار جنيه، أخذ شخص سيادى نصفها لنفسه «يقصدون مبارك»، وظلت الآلة الإعلامية للإخوان تقصف طابا بالشائعات وكأنها أرض يهودية، أما أم الغرائب فهى يوم أن وجه أحد القيادات الإخوانية الشابة سؤالًا للهضيبى فى حضور كل أعضاء لجنة صنع الأزمات: ماذا لو كانت مصر قد خسرت قضية طابا؟ فقال الهضيبى: كانت المسألة ستكون أسهل، لأننا وقتها كنا سنتهم النظام بالتفريط فى أرض مصرية، وكنا سنوجه إليه اتهامات بالخيانة العظمى!
كل ما ذكرته هنا هو من باب ضرب الأمثلة فقط لا من باب حصر الحالات التى استغلها الإخوان، المهم أن منهجهم فى هذه الخطة هو تحويل أى إنجاز سياسى إلى كارثة وتمرير تلك الأفكار إلى الوسط السياسى والتيارات الفكرية والحزبية، ولأن الكل كان قد بدأ فى الدخول مع مبارك فى أزمات، لذلك كانت كل النخب السياسية والحزبية والثقافية مجرد أداة طيعة فى يد الإخوان يحركونها كيفما شاءوا وأينما كانوا، والنخب تتلقى من الإخوان وتبدأ فى الثرثرة، ثم تنتقل الثرثرة للشعب، ثم تزيد حالة السخط، وتولت إدارة لجنة الأزمات قيادات شابة أصبحت الآن طاعنة فى السن مثل عصام العريان، ومحمود حسين، ومحيى حامد، وتوالت الأحداث التى نعرفها جميعًا، إلى أن قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير فاتجهت الأحداث إلى مسار آخر، حيث سعى الإخوان للوصول إلى الحكم فوق ظهور النخب السياسية! ثم حدث ما نعرفه جميعًا وقامت ثورة يونيو، ثم جاء الرئيس السيسى للحكم بإرادة شعبية، فوضع الإخوان خطة أخرى فى غاية الإحكام تستهدف تحويل إنجازات النظام السياسية والاقتصادية والدولية إلى فشل كبير، واستخدمت فى ذلك اللجان الإلكترونية وكل الأدوات الإعلامية التى تحت أيديهم، فأشاعوا أن العاصمة الإدارية كارثة الكوارث ومحطة من محطات الفساد، وسخروا من كل المشروعات الجديدة وأظهروها بأنها عبث لا فائدة منها، وأنها ستسبب خسائر كبيرة لمصر.
ولكن الإخوان يجهلون شيئًا مهمًا هو أن الفشل سيظل ملاحقًا لهم، مصداقًا لقول الله «إن الله لا يُصلح عمل المفسدين» ولو فكر الأتباع الأغبياء، أقول «لو» فكروا مع إن «لو» تفيد امتناع ما بعدها، لو فكروا لعرفوا يقينًا لماذا يفشلون دائمًا، يفشلون لأنهم مع كيان فاسد يسعى للإفساد، لذلك لم يُصلح الله لهم أعمالهم.