رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كما يحدثُ دائمًا

جريدة الدستور



يحدثُ أن أرى العالم من خرم إبرة، لست وحدى، لن أكون مكابرًا وأدَّعى الحكمة ورجاحة العقل وأعترف بغير ذلك؛ فغالبًا ما تدفعنى احتياجاتى، خاصَّةً إذا حال الآخرون دون تلبيتها إلى اتِّخاذ موقف منهم، هم لم يدخلوا عقلى بعد، ويرون كيف أضعهم فى خلفيّة سوداء بوجوهٍ قبيحةٍ وعيون مقيتةٍ، يقينًا لقد كونت دوافعى صورة سيئة لهم، علىَّ نسيان موضوع التَّسامح وعلاقتى بالآخر قليلًا.
■ لا داعى للجمل الاعتراضيّة.
■ ليس فى وسعك غير ذلك.
الموعد المقرر لافتتاح المهرجان السِّينمائى للأفلام التسجيليّة الذى تُنظِّمه وزارة الثَّقافة السَّاعة التَّاسعة مساء اليوم؛ كنَّا قد أتينا فى رحلةٍ إلى محافظة الإسماعيلية، تحت رعاية وزارة الثَّقافة وشعار المُلتقى الفكرى، جاءت هذه الرِّحلة ترضيةً لى، وبديلًا عن أحد المؤتمرات الذى لم أرشَّحْ له، هذا لا يهم؛ فغاية المؤتمرات أو الملتقيات عندى كسر إطار الحياة الذى أعيش فيه، والانطلاق إلى حياة جديدة فى مكان قصى ذى طبيعة خلابة، ليس خطأً أن أجاهر بذلك.
عندما عملت لفترة ما مدرسًا كان لزامًا علىّ الذهاب إلى المدرسة فى العطلة الصيفية كشأن زملائى تحت سطوة دفتر الحضور والانصراف، كان الجميع يسخرون من ذلك، مُردِّدين:
■ الوزير عارف أنها إجازة وأننا لا نعمل.
كان المدير يبتسم:
■ إنَّها الأوامر.
كنَّا نقضى هذا الوقت فى مجالس النَّميمة، لم يكن أمامنا خيارٌ غير ذلك، وإذا كان الشىء بالشىء يُذكر، فإنَّ من حسنات هذه المجالس إتاحة الفرصة لنا لممارسة الديمقراطية بطريقة نزيهةٍ؛ فنسبُّ الوزير ونلعن الحكومة.. إلخ، وتذهب أمانى البعض إلى استدعاء الحُلم بالسُّلطة وحكم البلاد والعباد، كما كان بيننا مَن لا يتجاوز سقف طموحاته حمل حقائب وزارية؛ فيتعجَّلون بالإفصاح عمَّا دارت به رءوسهم من تصوُّرات بشأن القضايا التى تُؤرِّقهم، ويتبارى الحاضرون فى الثَّناء أو الانتقاد، كاشفين عن وجهات نظرهم وآرائهم حيال ما سمعوه.
كانت غاية وزارة الثَّقافة ظهور افتتاح المهرجان السينمائى للأفلام التسجيلية بصورة مشرِّفة أمام كاميرات العالم؛ فعندما تكون قاعة المسرح مُحتشدة بالجمهور، يُعطى ذلك انطباعًا جيِّدًا عن تحضُّر البلد المُضيف، أنت فى غنى الآن عن الحديث الخاصّ بالتَّمثيل المُشرِّف فى الأوليمبياد والمسابقات الدولية، كان دخولنا قبل موعد الافتتاح بساعة ونصف، جلسنا فى الصَّف الثَّالث قبالة خشبة المسرح، الضَّوء الخافت يحثُّنا على الثرثرة، والتَّكييف أيضًا يُشجع على ذلك، فضلًا عن الفتيات الجميلات اللاتى يضبطن خطواتهن على نغماتٍ موسيقية خفيفةٍ، تنبعث من جنبات المسرح، تُلقى الفتاة الجميلة جملة ترحيب فى الميكروفون باللغة الإنجليزية ثم العربية؛ كان جمعٌ غفير قد تسلَّل إلى القاعة؛ لتضج بالتصفيق، لم يكونوا قد أدركوا بعد ما أدركناه، صرخت المُخرجة:
■ Stop
صعدتْ المسرح، أمسكتْ بالميكروفون:
■ دى بروفة يا جماعة، بعد إذنكم، تفضّلوا، وشرّفونا بعد ساعة من الآن.
حين حانت السَّاعة التَّاسعة إلا خمس دقائق لم يكن المحافظ قد وصل بعد، خرجتُ لمدَّة بضع دقائق خارج المسرح، كان الفنَّان رئيس المهرجان يعبر الشَّارع مسرعًا، ينظر فى ساعته، عدتُ إلى مكانى فى قاعة المسرح، فى التَّاسعة والنصف دخل الاثنان معًا، بدا أنَّ الجمهور كان فى وضع استعداد للتصفيق، رحَّبت الفتاة الجميلة بالحضور وبلجنة التَّحكيم ورئيس المهرجان، ودعت السَّيِّد اللواء المحافظ؛ لارتقاء خشبة المسرح لإعلان الافتتاح، وكما يحدث أن تُطفأ الأنوار عند العدِّ التَّنازلى لبدء حفل الافتتاح، يحدث أن يُصفِّق الجمهور، كان من بين فقرات الحفل مشهدٌ مكوَّنٌ من لقطات سريعةٍ مُتتابعةٍ فيما يعرف بالفوتو مونتاج لمعظم الأفلام التَّسجيليَّة للدِّول المُشاركة، وأعقب ذلك عرْض فيلم الافتتاح: «العالم كما يراه بوش».
■ كم كان أحمق وغبيًا عندما أعلن الحرب على العراق!
– ادَّعى أنَّه رجل دين محافظ، كما ادَّعى آرئيل شارون، عند زيارته لأمريكا، أنَّه جاء لتحقيق نبوءة نهاية الزَّمان!
- استطاع بوش إقناع العالم بأسباب الحرب، وعاد ينفى ذلك.
فضح الفيلمُ الخداعَ والوهمَ الذى باعه بوش الابن للعالم، يستقبل أحد الجالسين خلفى مُكالمة عبْر الموبايل، تفتح شهيته للحديث، تصوَّرته تحت قبَّة مجلس الشعب أو مذيعًا ينقل رسالة تليفزيونية على الهواء مُباشرة، كان مظهره مُتأنقًا، وحافظة مستنداتٍ يضعها على ركبتيه و«بانفلت»، يتحدَّث بلهجةٍ مُتعاليةٍ، أو ربَّما لغة الواثق من نفسه، يدعوه لمشاركته فى إصدار مجلة تهتمُّ بأخبار الفنَّان العربى من الخليج إلى المحيط، بدتْ رغبته أن يُسمعَ مَن حوله أخباره واضحةً، تناسى الفيلم نهائيًا، وظلَّ مُنهمكًا فى حديثه، الأمر الآخر الذى أذكره هو مشهد الرجل الجالس أمامى، ويداه فى وضْع التصفيق انتظارًا لولوج المحافظ.