رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ادفع.. اسحب.. ثنائية البندول والترس



اعتبرت الأبواب الثمانية التى تعبرها كل صباح ومساء جزءًا من القضاء والقدر المتعذر تغييره، فبعد أن أغضبت منها الجميع بمن فيهم جدها، وبعد أن قررت ترك المحطة التليفزيونية التى عملت فيها لسنوات، لم يعد لديها من بديل سوى قبول عرض «المؤسسة الحديثة» لتدير فيها قسم العلاقات العامة.
خمّنت أن صاحب المؤسسة، وهو رجل أعمال قديم ومنتج مبتدئ، رأى فيها مكسبًا وأن علاقات جدها فى الداخلية وخارجها ستيسر له الكثير من الأمور، ما هى هذه الأمور؟ الآن وبالتحديد لا تعرف، لكن الأيام مقبلة والمنافع تنساب متداخلة.
ارتاحت لعدد الأبواب الثمانية، واعتبرت مراوحتها اليومية بين السحب والدفع نوعًا من العدالة السماوية، وإن لم تخمد فى داخلها روح الثورة والفوضى، فتركت نقمتها تنساب فى هدوء وحذر بطريقة عفوية فى المبنى المنتظم الشكل، كأنه مجسم لمستطيل ضلعاه الطويلان تحتلهما مكاتب الإدارة والموظفين، والضلعان العريضان مخصصان للاستديوهات التليفزيونية، وفى الوسط ساحة كبيرة مكشوفة غالبًا هى مجمع للمطاعم والكافتيريات، بحيث يبقى من يدخل المبنى تحت المراقبة طوال الوقت، حتى وهو يشرب الموكا فى كوستا.
لم يكن العاملون فى المؤسسة مضطرين للتوقيع فى دفتر، أو أخذ البصمة عند الحضور والانصراف، ولما سألت قالت لها زميلة قديمة لا تقلقى هم يعرفون، ما هذه الأجواء المخابراتية المبتذلة؟ هل توجد مجسات عند الأبواب؟ هل السحب والدفع تسجيل للحضور والانصراف؟ بدأ الأمر يُثيرها، خاصة عندما نبّهها مدير الموارد البشرية إلى تكرار حضورها المتأخر بعد الثانية عشرة ظهرًا يومى الأربعاء والخميس.
خرجت غاضبة من مكتبه، لم تنتبه لاقتراب المكتب من أحد الأبواب الثمانية للعبور، لم تهتم إن كان دفع أو سحب، وجدت نفسها تتلكأ وتهدئ سرعة خطواتها، فى مساحة صغيرة مستطيلة لا تتجاوز ٣-٥ أمتار، التناقض بين ارتفاع درجة حرارة غضبها وانخفاض درجات التكييف المركزى، الذى لا يتجاوز ١٦ درجة، جعلها بحاجة لالتقاط أنفاسها، والوقوف قليلًا كى تستعيد توازنها، تمتص بعضًا من الدفء الذى فوجئت به، بحثت عن مخرج التكييف. لم تجد هذه الساحة بلا تكييف، بأربعة نوافذ على الجانب الخارجى المطل على «الكورت فوود»، وثلاثة على الجانب الداخلى المطل على «الأرشيف»، النوافذ المتقابلة تسمح لأشعة الشمس بالتواجد فى كل وقت.
ما الهدف من هذه الاستراحة؟ فى أى شىء كان يفكر المصمم وهو يرسم هذا البناء؟ كأنها مهرب، ملجأ، مكان يمكنك التنفس فيه بعد الضغوط التى تتعرض لها، يمكن لأذنها أن تلتقط عشرات التنهيدات، الزفرات، الصرخات المكتومة.
يمكن لهذه الساحة الصغيرة أن تكون مكانًا للإحماء، استعدادًا لمواجهات، والجدال، الحجرة الصغيرة بين حمام الساونا وبقية الجيم يمكنها أن تكون الهويس الذى تعبره السفن النيلية فى رحلتها من أسوان إلى الأقصر أو من القاهرة إلى الأقصر.. يرتفع منسوب المياه خلف القناطر فتدخل البواخر الهويس، تستقر فى غرفة مستطيلة لها بوابات ضخمة أمامية وخلفية، تغلق بوابة الدخول، ويبدأ تصريف الماء وتهبط السفينة كأنها تنزل «سلالم بئر لا نعرف قراره». عند نقطة معينة، عندما يتساوى منسوب الماء فى الهويس مع منسوب الماء أمام الهويس تنفتح البوابات الدائرية الضخمة وتعبر السفينة بسلام.
هذا المكان سر اكتشفته، سيكون خلوتها، يمكنها أن تتمهل فيه فتسقط أمامها تفاحة تغير قوانين العالم، أو ورقة فى ماء مغلى فنعرف من الحياة طعمًا غير طعم الماء. وربما يستهوى المكان غجرية فتتخذ من أحد أركانه الأربعة موطنًا، وفى الأمسيات، وعندما تهم الشمس بالمغيب، تخرج جدتى منديل الرمل وتخط بودعتها خطوطًا متداخلة، وتهمس لصبية نحيلة صفراء اللون: «أنتِ خائفة»، وتوشوش لأخرى «اكشفى عما فى البئر قبل أن يفيض» تبحث الغجرية عن المستحيل، عن العنقاء، تبحث خارج مسكنها عن شخص يرفض الثناء عليه، يرفض الرئاسة والكرسى، تبحث جدتى خلف الأبواب الثمانية، وبعد جهد ستتيقن أن هذا الخط غير موجود، وأنه لم يرسم بعد. لكنها فى كل الأحوال، ستأخذ رأسى وأنا أتصبب نقمة وغضبًا، وتضعه على فخذها وبأصابعها ستُخرج من رأسى بعض الهوام، بعض الدرن.. وسيبقى فى رأسى منها ما يكفى لكى أدفع الباب وأكمل يومى.