رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منهجان فى التنمية الاقتصادية «2»




تحدثنا فى المقال السابق عن منهج «النيو ليبرالية» فى التنمية الاقتصادية والسياسية، والذى يدعو إلى كف يد الدولة تمامًا عن أى دور اقتصادى، ومنعها من القيام بـ«واجباتها» الاجتماعية، اكتفاءً بـ«وظيفتها» كـ«خادم» للرأسمال، و«حارس» لمصالح الاحتكارات الكبرى، و«مساعد» لـ«السوق»، فى ظل «توافقات واشنطن»، وما تشيعه «مدرسة شيكاغو» الاقتصادية من قواعد و«مبادئ»، أدى الالتزام بها إلى استفحال أوضاع التبعية الاقتصادية للمركز الغربى القوى، وتفاقم الأزمات المتعاقبة، وازدياد اتساع الفجوة بين الطبقات، مما أصبح يهدد السلم الاجتماعى، بصورة ملحوظة على نحو ما نرى.
اليوم نعرض لمنهج آخر، يصح أن يُسمّى «المنهج البديل»، وهو منهج «الاعتماد على الذات»، وتفعيل الطاقات الكامنة فى المجتمع، واستنهاض إرادة مجموع المواطنين، لتجاوز الأزمات، وإعادة بناء الدولة.
وهذا المنهج ليس جديدًا، وقد شاع الحديث عنه ومحاولة تطبيقه مع نهوض حركات التحرّر من قيود الاستعمار، ثم خبا بانكسار هذه الحركة، وهناك إرهاصات تُبَشِّرُ باستعادته بريقه.
وهو منهج يرفض توجُّهات الرأسماليات التابعة، التى تبنى نمطًا داخليًا مُتفسخًا للاقتصاد، الموجّه- بشكل أساسى- لخدمة واسترضاء الخارج، ويورط البلاد فى مديونية خارجية متزايدة، ويفرض مظالم اجتماعية كبيرة، وبطالة عالية، و«نموًا» اقتصاديًا هشًا، وفقرًا متزايدًا، وتجريدًا للاقتصاد المحلى من طابعه الوطنى، خضوعًا للتقسيم الدولى المُجحف للعمل، مع نزح مستمر لعوائد جهد المجتمع إلى الخارج، مصحوبًا باستبداد سياسى يحمى هذه التوجُّهات.
ولتحقيق هذا المنهج يلزم السعى لـ«فك الارتباط» بالمنظومات التابعة، المُجحفة السائدة، والتحرّر من القيود، التى يفرضها النظام العالمى الجائر القائم، الذى يبسط السيطرة الكاملة على موارد الدول «المتخلفة»، من خلال شبكة الآليات المالية والنقدية، وفى مقدمتها: «البنك»، و«صندوق النقد» الدوليان، وكذلك باحتكاره التكنولوجيا المتطورة وأدوات إنتاج وإدارة المعلومات والمعرفة المتقدمة، وهو ما يُلخصه عالِم الاجتماع «إنريك أوتيزا»، فى دراسته المهمة المعنونة بـ«الاعتماد الجماعى على الذات.. استراتيجية بديلة للتنمية»، بـ«تحقيق الحد الأدنى من التبعية، والحد الأقصى من الاستقلال، والحد الأمثل من الترابط، فى سياق علاقات متباينة كيفًا مع بلدان المركز».
غير أن هذا الأمر، لا يعنى القطيعة مع العالم، أو الانكفاء على الذات، أو الانغلاق عن العالم، وإنما إعادة توجيه بوصلة الاقتصاد الوطنى لسد حاجات المجتمع، لا لخدمة الخارج وتلبية مطالبه.
وينهض هذا المنهج على «عمود أساس» هو التعبئة الشاملة للقدرات المحلية، وتوجيهها، لا لتلبية حاجات الخارج، وإنما لتغطية احتياجات المجتمع من مأكل وملبس وسُبل حياة وضرورات وجود، فى إطار جدول أولويات موضوعى، وركيزته: توجيه جهد المجتمع نحو تفعيل طاقاته الإنتاجية: الزراعية والصناعية، وابتكار طرق حديثة مناسبة لتعظيم إنتاجية المجتمع، والحد من الاعتماد على الاستيراد لإشباع حاجاته حتى «البسيط» منها، وتحرير الإرادة الوطنية من الارتهان لمصادر الإقراض وجهات التمويل.
ولذا فإن هذا المنهج يقتضى أوسع أشكال المشاركة الشعبية الإيجابية، ويعتمد على اقتناع الناس بضرورته وجدواه، وثقتهم فى أنه يحقق مصالحهم، ويحل مشكلاتهم، ويضعهم على مداخل تقدّم حقيقى، يُشاركون فى صنعه، ويجنون نتائجه.
ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا المنهج ليس منهجًا أجنبيًا أو مُستوردًا، وقد سعت مصر، فى الستينيات، باتجاه تحقيق جانب مهم من شروطه، كما بذلت جهودًا عميقة، لبحثه واستيضاح عناصره، فأفردت له «الجمعية المصرية للاقتصاد السياسى والإحصاء والتشريع» بحوث ومناقشات مؤتمرها العلمى السنوى السادس للاقتصاديين المصريين، «القاهرة: ٢٦ـ ٢٨ مارس ١٩٨١»، الذى عُقد تحت عنوان: «نحو اقتصاد مصرى يعتمد على الذات»، بمشاركة مجموعة من العلماء والمختصين الكبار، منهم الأساتذة: د. رمزى زكى، ود. أحمد سعيد دويدار، ود. مصطفى السعيد، ود. محمد عبدالشفيع، ود. عمرو محيى الدين، ود. مصطفى الجبيلى، ود. جلال أمين، ود. إبراهيم العيسوى، وغيرهم.