رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في حضرة «الكنيسي».. ما أجواء إذاعة بيانات الجيش المصري على العرب

جريدة الدستور

في الثانية عشر ظهرًا من كل يوم، كان سامي عبد العزيز ينتظر داخل مقهى قريب من محطة قطار شبين الكوم، هي المدينة الكبرى في محافظة المنوفية، هذه العادة واظب عليها "سامي" من بداية عام ١٩٧١ فكانت السنة الأولى له بكلية الحقوق جامعة المنوفية، الأجواء في تلك الفترة كانت مشحونة بأخبار حرب الاستنزاف وما تلاها، بيت "سامي" كان يقع في قرية "كفر أبو الحسن" على مقربة من الطريق المؤدي لشبين، وكثير من الأسر في تلك الفترة تفتقر لأي وسيلة اتصال سواء كانت تلفاز أو مذياع.

هُنَا يذكر "سامي"، وهو في العقد الخامس من عمره ذكرياته مع متابعة أخبار الحرب منذ النكسة مرورًا بحرب الاستنزاف وصولًا لنصر أكتوبر المجيد، ٦ أعوام كان هُو مراسل صحفي لكن بشكل معكوس حيث ينقل ما سمع من أخبار نُقلت عبر أثير الإذاعة إلى أفراد أسرته فهو أكبر أبنائها ومنهم إلى الجيران والزملاء، حين سُئل "سامي" عن أكثر الأصوات العالقة في ذهنه من تلك المرحلة الهامة من تاريخ مصر الحديث، ذكر أنه لا يستطيع محو عدة أسماء من ذاكرته الصوتية.

«هنا القاهرة.. جاءنا الآن البيان الخامس، نجحت قواتنا المسلحة فى اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة واستولت على نقط العدو القوية بها ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة، كما قامت القوات المسلحة السورية باقتحام مواقع العدو في مواجهتها وحققت نجاحًا مماثلاً في قطاعات مختلفة»، بيان القوات المسلحة الذي نُقل عبر إذاعة الشرق الأوسط في الرابعة من مساء السادس من أكتوبر، كان صوت "حلمي البلك" الرخيم مصاحب للبيانات الرسمية للقوات المسلحة، وفي كل ذكرى لعبور أكتوبر العظيم يسمعه "سامي" مجدِدًا روح النصر بداخله ويفرح كثيرًا كلما أعاد الراديو والتلفزيون إذاعة تلك البيانات كي يسمعها أبناء كل جيل يولد في مصر ليعرف أمجاد بلده.

لم يكن "البلك" وحده هُو من أثّر في وجدان جيل أكتوبر المجيد، لكن يذكر "سامي" أن الكل كان ينتظر أخبار الجبهة بصفة يومية يتوقون لسماعها بشكل لحظي، لكن كانت هذه الفترة تفتقر لوسائل الاتصال الحديثة، لذا كان مراسلي الحرب حين ذاك هم همزة الوصل بين الجبهة والشعب المصري والعربي على حدٍ سواء.

موجات الإذاعة كانت تخترق مسامع الجميع وكانوا ينتظروا الأخبار بشغف، إلا أن هناك أصوات رافقت آذانهم و نال "حمدي الكُنيسي" نصيب الأسد من ذاكرة المصريين، فكان له برنامجين هما "يوميات مراسل حربي" و"صوت المعركة" حظوا بكل الاهتمام في تلك الصفحة من تاريخ مصر المعاصر.

في الذكرى السادسة والأربعين لعبور أكتوبر المجيد، حاورت "الدستور" الإذاعي الكبير حمدي الكُنيسي ليروي ذكريات عمله كمراسل حربي آنذاك، يذكر "الكنيسي" أنه كان في أوائل العشرينات من عمره، يهوى القصة والرواية، حتى أن عمله في الإذاعة كان مقصورًا على برامج في نفس هذا الإطار، ومن بينهم كان برنامج «قصاقيص» و«النشرة الثقافية».

وبدأت فكرة انضمامه للعمل ضمن فريق تغطية أخبار الجبهة منذ بداية حرب الاستنزاف، حيث رغبت الإذاعة المصرية في نقل أخبار حقيقية من ميدان المعركة بعد أن شعر الشعب أن الإعلام يضلله بعد أن بث فيه روح الوهم بالنصر منذ العدوان الثلاثي في ٥٦ وحتى نكسة ٦٧.

يسرد "الكُنيسي" أجواء هذه الفترة من تاريخ الإذاعة، فيقول إن كل إمكانيات "ماسبيرو" كانت مرسخة لبث بيانات الحرب في مصر وسوريا للأمة العربية جمعاء، وكانت البداية أثناء حرب الاستنزاف بتسريب أخبار زائفة بأن مصر ليست قادرة على خوض الحرب الآن هُو ما صدقه العدو، وكان هذا جزء من خطة خداع استراتيچي تعمدتها مصر.

لكن على الصعيد الداخلي كان للإعلام دورًا آخر في بث روح القتال والجلد داخل نفوس المصريين، حتى يتحملوا فقر مصر من السلع والخدمات ويتحملوا ظروف الحرب القاسية، لتتحول كل الأمة إلى مقاتلين وليس في الجبهة وحدها، وهذا الدور يفسر به "الكنيسي" خلو مصر من حوادث السرقة والنهب رغم الفقر الشديد فخلت أقسام الشرطة من المجرمين واللصوص فالجميع كان يقدر ما تمر به مصر.

ويبدأ يوم "الكنيسي" -آنذاك- في الرابعة فجرًا، يستقل سيارة من مبنى "ماسبيرو" إلى نقطة معينة على الجبهة، ومنها يصطحبه مجموعة من الجنود للداخل، ليشرع في عمله من تسجيل حوارات مع الجنود والمقاتلين، يستمع لأحوالهم، وينقل أخبار المعارك والانتصارات الصغيرة وما عظم منها، ثم يعود ليلًا لمبنى الإذاعة يفرغ الحوارات ويسجل النصوص للجمهور كل يوم.

يذكر "الكنيسي" أن بعد نكسة ٦٧ بدأ الجمهور يستقي معلوماته من القطاعات الخارجية؛ لفقد ثقته في المصرية بعد أن شعروا أنها باعت الوهم لهم وظنوا أن النصر محقق وصُدموا بواقع آخر، لذا كانت العودة للإذاعة من داخل ميادين المعارك وعادت الثقة مع معركة «رأس العُش».

"جميع فئات الشعب كانت تنتظر أخبار "الكنيسي"، حتى الصفوة من الفنانين والمثقفين كانوا ينتظرون بلهفة، وينتظرني في مكتبي الإذاعي الشهير وجدي الحكيم دومًا، وعبد الحليم حافظ والملحن بليغ حمدي؛ ليعرفوا منه كل المعلومات حتى الأسرار التي لم يكن يقدر على سردها"، بحسب "الكنيسي".

يصف الكنيسي فترة عمله مراسلًا حربيًا بأنها الأهم والأزخر في تاريخه، رغم تقلده بعد ذلك مناصب مهمة، منها رئيسًا للإذاعة المصرية ونقيبًا للإعلاميين، فحينها شاهد بعينه جنودًا ينزفون دمًا فداءًا لمصر، ونقل بيده ضابطًا مصابًا حتى يتم إسعافه وفي حادثة أخرى حمل مع رفاقه شهيدًا، كان ما ينقله في برامجه هو ما يراه ويتأكد من صحته، لا يزيد ولا ينقص منه فلم تكن أجهزة الدولة تُملي عليهم ما يبثونه لكن تجلى دورها في وضع إطار للرسالة الإعلامية حتى تحافظ على استراچية الحرب.

واختتم "الكنيسي"، أنه يتمنى أن يكون هناك مذيعين ومراسلين ينقلوا الصورة الحقيقية من داخل سيناء، حتى يطمئنوا الجمهور على القطعة الأغلى من جسد مصر، لكن في السابق كان العدو واضحًا، أما حاليًا هُو إرهابي خسيس يقوم بفعلته ثم يتوارى عن الأعين، مما جعل الإعلام يكتفي بالبيانات الرسمية التي تفسر ما يتم من عمليات داخلية حاليًا بغرض تطهير أرض الفيروز من البؤر الإرهابية.