رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى حديثى عنها

جريدة الدستور


لم أكن أتصور أن حياتى، أو بمعنى أدق نفسى، ستتغير كل هذا التغير بعد أن أحببتها، كلمة أحببتها لا تعنى أننى لم أحبها من قبل، لكن أقصد بها الحب عن قرب.. عن الاقتراب أكثر منها ومن حياتها، فقد قضيت سنوات طويلة بعيدًا، كان لا بد أن أملك حق الحديث عنها، ولو فى كتاباتى أو الحديث مع نفسى، فقد كانت مجهولة لمن حولى.
على أبواب الاكتئاب مثلًا، ومع هذا الحنان المفاجئ، الذى اكتسبته منها، أشعر بسعادة غامرة، لون أبيض يجعلنى أشعر بالأشياء، أرى بوضوح، فجأة أصبحت حياتى مفهومة، مرتبة، تفاصيل صغيرة لم ألتفت إليها من قبل، شىء أهم من المبادئ والنفخة الكاذبة، من تلك الوحدة القصيرة الطويلة، لتصبح رغبتى وباقى حياتى هى تلك الكلمات.
وعودى لها كـ«قطع السكر»، تمسك بها لتحلى بها مرارة أيامها، فسريعًا ما تذوب وتتلاشى حلاوتها، برغم اختلاف صديقاتها معها وتؤكد لهن أنهم «كاذبون»، فقد صدقته ولم تكن لتكذبه، وهو لم يكذب، لكن النهايات أكبر منها ومن أحلامها، أكبر من حكايات جددتها التى تقص لها حكاية الأميرة الجميلة التى سوف ينقذها الأمير على حصانه الأبيض من أيدى الأشرار، لم تقرأ قصص الحب كـ« روميو وجولييت» «عنتر وعبلة» والنهايات الواقعية، كانت فقط تصدق جددتها.
مع أن الفرق بينى وبيها «ثلاثة أشهر فقط» إلا أننى أراها طفلة صغيرة، كالتى تختبئ فى طيات الستارة أو تحت المائدة، وتبدو أيضًا هادئة بشكل مغيظ، لكن رحابة روحها تمنحها صلابة ومرحًا واعتزازًا، كالشمس التى تغمر الكون بضياء ساحر، تخطفنى لوهلة قصيرة ذاكرة مضببة لحياة بعيدة، مواقف تعاملت فيها باستخفاف ولا مبالاة فتشعرنى بالخزى، كان لا بد أن أكون «أباها» كما كانت تقول لى، يتيمة هى، واليتم هنا ليس فقدان الأب، ولكن فقدان الإحساس بالأمان والحياة، تأخرت كثيرًا فى وعودى ولا أريدها أن تغضب منى، هى بالذات لا أقدر على غضبها.
تلك النجوم البعيدة كعقد اللؤلؤ فى صدر السماء، شاهدة على ليالى قضيناها ساهرين من الفرح والحنين، رفيقات فرحتنا ودموعنا وذكرياتنا، كنا نتمنى أن نطير إليها ونلمسها، ولكن اكتشفنا متأخرًا أنها أجسام متوجهة تحرق من يقترب إليها، لكنها ناصعة بجمال قلبها، هادئة بكل الهدوء فى ضحكتها.
كانت تحب كلامه، أسلوبه، طريقته، وهو نفس الشىء لكن بطريقة مختلفة، الاختلاف هنا هو اختلاف الرومانسية بين الواقع والخيال، كانت تعلم أنه «عصبى»، ولكن المشكلة أن يعترف بأنه «عصبى»، متهور، مندفع، ولم يحاول تغيير ذلك أبدًا، كان يطلق الكلمات بسرعة عجيبة، ويصمت يتناول سيجارته، ويهمس لها: هذه آخر مرة أتعصب فيها، فتضحك، بخصوص ضحكتها كان يستعيد بها نفسه وكأنه أمتلك العالم من جديد، فكان يذوب فى ضحكتها كقطعة الثلج.
مع بكاء الأصابع وأنا أكتب عنك، بعد أن فقدت صوتى من بكاء وجع الفراق الأخير، بصفتى أبيك الذى لا يعرف أين أنت، ليس لصفة أخرى، سأخبر الذين يعيشون فى قلبى فسادًا أنى أحبك، لن أتمدد كبساط تحت نعال أفكارهم المتسخة؟، فى آخر لقاء لنا، كنتِ تواجهين الحياة بضحكة مستعارة، وتتظاهرين برغبتك فى العطاس لتبدو دمعتك مرضية، كانت لحظة الوداع هى اللحظة الأصعب على الإطلاق.
أنا لا أعرف شيئًا يجلب الاطمئنان أكثر من صوتك، كم من الوقت سيمضى لأتجاوز خيبة فقدانه؟، أنا لا أبحث عن إجابة، بقدر ما أبحث عن معجزة تعيد لى تفاصيل صوتك فى ذات المكان منذ سنوات.