رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ظل قمر غريب

جريدة الدستور



تمر الأيام ولا تتعلم أبسط حقيقة فى هذه الغربة، بأنك وحيد، رويدًا رويدًا تصبح الحياة أكثر تسلطًا وقمعًا، كتجاعيد وجهك التى تتعرج يومًا بعد يوم، تشرب وجهك ولا ترتوى، كصوتك الراقص خلف الصمت، فصرت شفافًا لا ترى، تخيل، تخيل أكثر!.
فى ظل قمر غريب، لا شىء يصلح فى العيد سوى سماع الأغانى، أحاديث جانبية، مكالمة لبلد بعيد، ثم تدريجيًا بعد ساعات تصاب بخيبة أمل، وتبقى الأماكن خاوية على عروشها، لا زائر، لا أشخاص، فقط يسكنها الفراغ، وتنتظر مجرد زائر.
هناك العديد من الناس الذين يسيرون من حولك ولا تراهم، تنطق العيون بآلاف الكلمات التى لا تستطيع أن تعبر عنها الألسنة، تفتقد كل شىء محسوس ومرئى، تبتعد بك الحياة إلى واقع ليس فيه سوى الحزن والصدمات والخيبات.
تقرر أن تتحدى غربتك، وتتقبل الظروف الجديدة المفروضة عليك، تسمع أصواتًا فى ذاكرتك، وترى أماكن تزهو بزينات العيد، وتحمل ياسمينة بيضاء تنثر عطرها فى المكان أملًا وحبًا وسعادة، تكتب كلمات محملة بالشوق اللهفة والحنين، تستعيد العيد فى دهاليز ذاكرتك السرية، ثم تأتى الغربة فى شكل عجوز شمطاء، قبيحة المنظر، تسرق حتى خيالك وظلك، فتغرقك فى سجنها، وتترك لك الحنين القاتل، والبقاء خلف شاشة تليفزيون أو هاتف.
أين نحن من دمعة أم لا ترى ابنها يقبل يدها يوم العيد؟ من صرخة طفل يشتاق لحضن أبيه ولعبة جديدة ليلة العيد؟ من أب يخرج وحيدًا لصلاة العيد دون ابنه؟ من زوجة تتلهف لكلمة حنين واشتياق دون زوجها؟ أين نحن بعيدًا فى يوم العيد؟
أتساءل: كم يمكن احتمال ذلك.. غربة بلا قلب.. وعيد فى ظل قمر غريب.. وذكريات يكسوها الحنين.. وحدة وفراغ تنهش فى أيام العمر؟
سقط القلم كمن غرق فى حيرة قاتلة، ورميت الورقة جانبًا، وقفت أتأمل نفسى فى المرآة، شعر متساقط باهت، وجه حزين شاحب، عينان تائهتان تبحث عن شىء ما، عجوز لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، ذلك الرجل الغريب عنه، لا يشبهه سوى فى الملامح، يبحث عن بقاياه فى جلده، عن رائحته فى خلاياه، هو بدوره لا يحتاج أن يصرخ، يعرف إنها النهايات الكلاسيكية للغربة وعقوبتها الشيخوخة.