رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ أمين الخولى.. الثائر الأول بين الأساتذة والتلاميذ



وُلد أمين إبراهيم عبدالباقى عامر إسماعيل يوسف الخولى، فى الأول من مايو ١٨٩٥ بقرية «شوشاى» مركز أشمون محافظة المنوفية، وكان والده إبراهيم الخولى مزارعًا، ووالدته السيدة فاطمة بنت الشيخ على عامر الخولى من عائلة الخولى. كان «أمين» طالبًا بمدرسة القضاء الشرعى وقريبًا من قلب وعقل ناظرها عاطف بركات ابن شقيقة زعيم الأمة سعد زغلول. فى القاهرة دخل مدرسة «لافيسونى» ثم مدرسة المحروسة. حفظ القرآن وهو فى العاشرة من عمره. وتخرج فى مدرسة القضاء الشرعى، وعُين مدرسًا بها.
اعتُقل سعد زغلول فى ٨ مارس ١٩١٩ فى سيشل واشتعلت الثورة بداية من يوم ٩ مارس ١٩١٩. حمل أمين الخولى علم مدرسة القضاء الشرعى، وقاد المظاهرة إلى الأزهر، حيث تقرر أن يتجمع طلاب مدارس القاهرة، وحاصرهم حكمدار القاهرة بجنوده وهددهم بإطلاق الرصاص إذا لم يتفرقوا، وتقدم إليه الخولى قابضًا على العلم وكاشفًا عن صدره، قائلا: «ها أنا ذا» وتماسك الطلاب وتراجع الحكمدار وانسحب الجنود وسارت المظاهرة تهتف للاستقلال وبحياة سعد، وتطالب بالإفراج عن زعيم الأمة، وعندما وصلت المظاهرة إلى ميدان باب الحديد «رمسيس حاليًا» قاد الخولى المظاهرة إلى حى الفجالة، وهو يهتف بصوته الجهورى بـ«حياة الأقباط.. الإخوة فى الوطن.. وبحياة الهلال مع الصليب».
كان أمين الخولى يرى أن الشخصية المصرية عقيدة يخفق بها قلب المصرى، ويرى أن ما بين مسلمى مصر وأقباطها أقرب مما بينهم وبين المسلمين الأتراك. وقتل الإنجليز صبيًا صغيرًا لأب فقير يبيع القباقيب. حملت المظاهرة جثمان الصبى واندفع الخولى يهتف «فلتسقط بريطانيا السفلى»، وعندما وُلد «فاروق» عام ١٩٢٠ ومُنحت المدارس إجازة للاحتفال بهذه المناسبة، حرض الخولى طلاب المدرسة على ألا يشاركوا فى الإجازة، وأن يحضروا إلى المدرسة مشاركة فى الهمس العام الذى كان يحيط بظروف مولد «فاروق».
كان «أمين الخولى» ابن قرية «شوشاى» وابن مدرسة القضاء الشرعى مصريًا أصيلًا معاديًا للاحتلال الإنجليزى، مطالبًا باستقلال الوطن ومؤمنًا بوحدة الشعب العظيم، وابنًا بارًا للثورة الشعبية الكبرى ١٩١٩. ووقف فى صف الديمقراطية. فرأى ضباط ثورة ٢٣ يوليو أن يبعدوا الخولى عن الجامعة، فأصدر ضباط الثورة قرارًا فى ٢٢ يونيو ١٩٥٣ بأن يُنقل أمين الخولى إلى دار الكتب مستشارًا- لا يُستشار- ثم مديرًا عامًا لإدارة الثقافة التابعة لوزارة التربية والتعليم، إلى أن أتم الخدمة الحكومية فى أول مايو عام ١٩٥٥ «ولد عام ١٨٩٥».
عاطف بركات ابن شقيقة زعيم الأمة سعد زغلول وناظر مدرسة القضاء الشرعى، الذى تخرج على يديه أمين الخولى وأحمد أمين وعبدالوهاب عزام وأحمد فرج السنهورى وعبدالحميد العابدى، كان هذا الناظر الوطنى «نُفى إلى سيشل عام ١٩٢١ مع سعد زغلول ومصطفى النحاس وسينوت حنا وفتح الله بركات ومكرم عبيد»، يغرس فى نفوس تلاميذه أن يبحثوا عن أنفسهم فى جذورهم العميقة بأرض مصر، ويثير فيهم روح الجدل والحوار ولا يهتم بأن يقولوا له نعم أو آمين، وكان ينمى فيهم الشخصية القويمة والرأى المستقل. ونشأ تلميذه أمين الخولى فيما بعد على هذه الصفات حتى قيل عنه «الثائر الأول بين الأساتذة والتلاميذ على السواء». لم يكن مجرد محاضر أو مدرس وإنما كان أستاذًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.
لم يكن يهتم بتدوين المحاضرات وتلقين المعلومات، قدر ما يهتم بتربية النفوس والضمائر وبناء القيم. قال عنه د. لويس عوض: «كل من جلس بين يديه يتلقى العلم عليه ارتبط به ارتباط المسحور بالساحر.. من عرفه لا يمكن أن ينساه». كان أمين الخولى يؤمن إيمانًا عميقًا بالشباب، ويؤمن أنهم أصحاب الغد، فدعاهم إلى إيجاد القادة الصادقين. وعاش يفكر فى الغد لا فى الأمس.. يدفع أبناءه ومريديه إلى العيش فى المستقبل برأيهم لا برأى يملى عليهم أو يستوردونه من بلد آخر.. كان من أجهر الدعاة إلى الحرية الفكرية.. ويرى الحرية وسيلة الحياة الكريمة. لقد أخذ منهاجه فى أستاذيته عن عاطف بركات من المحدثين وعن الإمام الشافعى من المجددين القدامى. وكان الأساس النظرى عنده فى الرأى والرأى الآخر: «إن الاختلاف فى الآراء والتقاتل على المبادئ من نواميس الحياة على الأرض، وليس ظاهرة تحلل»، وكان يؤمن بوحدة أصل البشرية وبجودة المصير الإنسانى.
كان الأزهر موجودًا عنده فى ثقافته وزيه. وفى العاصمة البلجيكية «بروكسل» انعقد مؤتمر تاريخ الأديان الدولى من ١٦-٢٠ سبتمبر عام ١٩٢٥، فبعث الأزهر مندوبين يمثلانه هما الشيخ مصطفى عبدالرازق والشيح أمين الخولى. وعام ١٩٣٤ أصدر محاضرته عن «الفلسفة وتاريخها» وأهداها إلى روح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وفى عام ١٩٣٥ قدم لطلابه بكلية أصول الدين «تاريخ الملل والنِحل» وتوطدت صلته بالأزهر بهذه الدراسة، وأعلنت الحكومة فى عام ١٩٣٦ عن مسابقة بين المفكرين والكُتّاب فى موضوعات منها «رسالة الأزهر فى القرن العشرين» واختير عضوًا فى لجنة التحكيم.
فى ٧ نوفمبر ١٩٢٣ عُين إمامًا للسفارة المصرية فى روما، وأبحر من الإسكندرية فى ١٤ ديسمبر، وتعلم اللغة الإيطالية حتى أجادها. وفى يناير عام ١٩٢٦ نُقل من روما إلى مفوضية مصر فى برلين وأتقن الألمانية. وعاد إلى مصر عام ١٩٢٧ حيث تسلم وظيفته فى القضاء الشرعى فى ١٩ مارس ١٩٢٧. وعندما اشترك مع نخبة متميزة من الكُتّاب والمفكرين فى تأليف «تاريخ الحضارة المصرية» الذى أصدرته فى أجزاء متفرقة المؤسسة المصرية العامة للتأليف أعد أمين الخولى البحث الخاص «الحياة الدينية فى مصر الإسلامية من ظهور الإسلام إلى مطلع العصر الحديث». والمصريون، كما قال هيرودوت، أشد البشر تدينًا، ولا يعرف شعبًا بلغ التقوى درجتهم فيها وصورهم بجملتهم تمثل المصريين يصلون أمام الآلهة، وكتبهم على الجملة أسفار عبادة وتنسُّك.
عندما اشتعلت ثورة ١٩١٩ تولت جمعية «إخوان الصفا»- التى تكونت فى مدرسة القضاء الشرعى- تنظيم الطلاب وتشجيعهم على الاشتراك فى المظاهرات الوطنية، وتكونت الجمعية من أمين الخولى وعدد من زملائه، وقد عرف الخولى أسلوب الجمعيات فى التعبير عن مشاعره الوطنية، أو دعواه إلى الإصلاح الاجتماعى. واشتغل أعضاء جمعية إخوان الصفا بالأدب والفن وتعلم اللغات الأجنبية بمدرسة فرنسية بباب اللوق. واعتاد أعضاؤها أن يلتقوا فى بيت أحدهم مرة فى الأسبوع، وتمتد أحاديثهم من الظهيرة إلى المساء. وفى بداية الثلاثينيات أعلن سلامة موسى عن تأسيس جمعية «المصرى للمصرى» تدعو إلى تشجيع البضائع المصرية ومقاطعة البضائع الأجنبية وانضم إليها أمين الخولى.
فى أبريل سنة ١٩٥٦ أصدر الشيخ أمين الخولى مجلة الأدب مدرسة للفن والحياة على نفقته الخاصة، لتعيش عشر سنوات انتهت فى مارس عام ١٩٦٦ عام رحيل الأستاذ نفسه. وفى الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الأربعاء التاسع من مارس عام ١٩٦٦ رحلت روحه عن دنيانا وعاد جسده إلى قريته «شوشاى». قالت الكاتبة الكبيرة تلميذته وزوجته الثالثة د. عائشة محمد على عبدالرحمن المعروفة باسم «بنت الشاطئ»، «٦ نوفمبر ١٩١٣- الأول من ديسمبر ١٩٩٨»: «على عينى اقتحم أناس غرباء مخدعه لتجهيز جسده للرحلة الأخيرة». رحل الجسد لكن أفكاره ما زالت حية بين الأوفياء لوطنهم.