رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكمين

جريدة الدستور



استعددت للسفر مبكرًا والذهاب للعمل فى موعده كالعادة، طبيعة العمل بالعسكرية المصرية تفرض عليك الانضباط، وأنت قائد، فكلماتك وتصرفاتك بحساب، والالتزام بالمواعيد مطلوب، حتى لو كان على حساب أشياء أخرى مهمة فى حياتك أو حياة الآخرين، القدوة والمثل، تقدمه حتى فى الحرف الذى تنطق به.
ودَّعت بناتى وزوجتى، الشعور بانقباض القلب يسيطر على، كنت مختنقًا بالدموع أمامهن، حاولت السيطرة على نفسى أمام زوجتى والبنات، لا أريد أن يلحظن شيئًا حتى لا يقلقن علىّ، خاصة أن العمليات الإرهابية الأخيرة، والهجوم على الأكمنة فى العريش وسيناء حديث وسائل الإعلام ونشرات الأخبار.
فى كل مرة كانت زوجتى تسألنى عن الوضع الآن فى سيناء، وكنَّ بناتى يسألننى دومًا، خاصة رضوى، البنت الصغرى:
- هى الحرب مع الإرهابيين دى مش هتخلص يا بابا؟!
إن شاء الله هتخلص يا رضوى، وإن شاء الله مصر هتنتصر عليهم، وتدفنهم كلهم، سواء فى سيناء أو فى غير سيناء، ما تخافيش يا حبيبتى.
بصراحة، الهجوم الأخير أفزع الجميع، عدد الشهداء تجاوز العشرين، لكن مصر غالية وتستحق الكثير.
ودَّعتهم جميعًا، وأخفيت دمعتى، وقبلت يد أمى التى ظلت متعلقة فى عنقى فترة طويلة، وهى تقول:
- استنى افطر النهارده معانا ومع بناتك يا حبيبى، النهارده آخر يوم فى رمضان.
أكدت لها أن زملائى فى انتظارى، لنتبادل الإجازات ويحضروا العيد مع أولادهم حسب الاتفاق بيننا.
وقد بللت دموعها دون أن تشعر ملابسى العسكرية، حتى إننى مازحتها قائلًا:
- ينفع كده يا ماما.. هرجع أغير هدومى تانى.
وقبلتها وقبلت يدها، وانصرفت.
فى الطريق تذكرت زيارتى لأبناء صديقى عبدالرحمن، الذى استشهد مع مجموعة من زملائه فى الأسبوع الماضى، وتأثرت جدًا لكلمات ابنه الصغير الذى سألنى كعادته عندما رأنى- ناسيا- عن عبدالرحمن والده:
- بابا عامل إيه يا عمو؟!
ثم تذكر فجأة أنه توفى، فأجهش بالبكاء وأبكى من حوله، حتى أنا على الرغم من محاولاتى فى التماسك وتهدئة الجميع، لكن للأسف خانتنى عيناى فكانت دموعهما غزيرة.
ليلة أمس لم ننم، حدثت زوجتى كثيرًا، وذكرتنى هى بكل المناسبات السعيدة التى مرت بنا دفعة واحدة، عندما تقابلنا للمرة الأولى مصادفة فى عرس صديقتها، ومكالمتى الهاتفية الأولى، ثم اللقاء الأول، والخطوبة، والعرس، والابنة الأولى، والابنة الأخيرة، وهديتى لها فى أول عيد زواج، وهديتى عندما حصلت على أول ترقية فى حياتى، وكنا سعيدين بهذه الذكريات.
ومازحْتُ أمى طويلًا، واستكمالا لحديث زوجتى ذكرتنى هى الأخرى بطفولتى الشقية، وأول أيام صيامى، وكيف كنت أقضى العيد، خاصة بعد وفاة والدى، وعندما ذهبت معى فترة الاختبارات للالتحاق بالكلية الحربية، وانتظارها بالخارج، ثم حفلة التخرج التى حضرتها فى حضور الرئيس، ثم فرحتها بزواجى، وإنجابى علياء أول حفيدة لها.
ولعبْتُ مع البنات اللاتى أخرجن ملابس العيد فى فرح شديد، وكل واحدة تسأل نفس السؤال:
- إيه رأيك يا بابا؟
- جميل، روعة.. ذوقك حلو يا علياء، روعة عليكى يا سلمى، جميل جدًا يا رضوى.
ثم تناولنا السحور، وصليت الفجر، وودعتهن وخرجت.
وصلت الكمين التاسعة صباحًا، واتصلت بزوجتى، وكلمت والدتى التى كانت تبكى، وكلمت البنات، وودَّعت أصدقائى المسافرين لقضاء العيد مع أولادهم.
الإحساس بالتعب سيطر على، فاستسلمت للنوم، وصحوت بعد العصر على حلم: «أننى مسافر بالقطار، الذى توقف فجأة فى غير محطته الرسمية، ونزلت مع مجموعة من المسافرين، تركَنا القطارُ وسار ببطء، غير مبال بنداءات الركاب».
بدأنا فى الكمين نعد للإفطار، آخر إفطار، تعاونا جميعًا، وعندما أُذِّن للمغرب جلسنا جميعا نتناول الإفطار، آخر إفطار.
قضينا الليل- ليلة العيد- فرحين، وسهرنا حتى ساعة متأخرة، واتفقنا على أن نصلى جميعا العيد فى الكمين، على أن أتولى الإمامة فى الصلاة والخطبة، وفعلًا أعددت الخطبة عن «الشهادة ومنزلة الشهيد عند الله».
الكمين- العريش فى: ٥/٦/٢٠١٩
غرة شوال ١٤٤٠- الرابعة فجرًا.
كانت هاتان الصفحتان آخر ما كتبهما فى مذكراته، التى تسلمتها بصفتى زوجته مع بقية متعلقاته وملابسه العسكرية عملًا بوصيته، بعد استشهاده فى الساعة الخامسة صباح يوم العيد.