رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتب الأمريكى بول أوستر

جريدة الدستور


لم يمض الكثير من الوقت حتى أدركت أمىّ خطأها، لن ينجح هذا الزواج. عرفت ذلك مبكرًا، قبل نهاية شهر العسل حتى «تمّ توثيق شهر العسل كاملًا فى الفوتوغرافات التى وجدتها: يجلسان مع بعضهما على صخرة بمحاذاة بحيرة ساكنة تمامًا، مسارٌ واسع لضوء الشمس خلفهما يتّجه إلى منحدر من أشجار الصنوبر كثيفة الظلال. كان أبى يلف ذراعيه حول أمى، وكانا ينظران إلى بعضهما، يبتسمان بحياء واضطراب، كأن المصوّر قد جعلهما يبقيان على تلك الخدعة للحظة طالت عليهما كثيرًا». ذهبت أمى إلى أمها باكية وأخبرتها بأنها ستهجره. وبطريقة ما، استطاعت جدتى إقناعها بأن تعود إلى أبى وتجرّب الحياة معه مرة أخرى. وعند ذلك، وقبل أن يهدأ الغبار، وجدَت نفسها حبلى، وبغتّة صار الوقت متأخرًا على فعل أىّ شىء.
يخطر لى أحيانًا كيف أن أمى قد حبلت بى فى منتجع شلالات نياغرا المخصّص لقضاء شهر العسل، ليس لأهمية موقع الشلالات بالطبع، بل لرعب فكرة أننى كنتُ نطفة تكوّنَت من خلال عناق خال من الشّغف، فى أحضان عمياء، وعبر ملاطفات كان لا بدّ منها تحت شراشف الفندق الباردة. لقد فشلت هذه الفكرة فى إخضاعى لأصدق أننى لا شىء سوى حدث طارئ، أن وجودى محض صدفة وخطأ. شلالات نياغرا، أو خطر ما قد ينتج عن التحام جسدين، وعندها أنا، مخلوق قزم وعشوائى، كأننى أحد الذين تهوروا منذ زمن ورموا أنفسهم من فوق الشلالات داخل برميل.
لاحقًا بعد مضى ثمانية أشهر أو أكثر قليلًا على شهر العسل، فى صباح يوم ميلادها الثانى والعشرين، أفاقت أمى من نومها أخبرت أبى بأنها ستلد، فقال لها: «غير معقول، تحتاج ولادة هذا الطفل إلى ثلاثة أسابيع قادمة»، ثم ذهب إلى العمل وتركها من دون سيّارة.
كانت تنتظر. ظنّت أن أبى قد يكون على حق. تماسكت أكثر، تجلّدت، ولكنها فى النهاية اتصلت بزوجة أخيها وسألتها أن توصلها إلى المشفى. قامت خالتى بمرافقة أمى طوال اليوم، وتوالت اتصالاتها على أبى ساعة بعد ساعة طالبةّ منه المجىء، ولكنه كان يجيبها: «لاحقًا، أنا مشغول الآن، سأكون عندكم عندما أستطيع».
انتظرَت قدومه، لكنّه لم يظهر إلّا صباح اليوم الثانى رفقة والدته، أرادت جدتى أن تتفحص حفيدها السابع. كانت زيارة قصيرة ومتوترة، انطلق بعدها عائدًا إلى العمل.
بالطبع أجهشت أمى بالبكاء. فقد كانت فتاةَ صغيرة قبل كل شىء، ولم تتوقع ألا تعنى هذه الولادة إلا القليل لزوجها، لكن لم يكن بمقدوره قط أن يفهم مثل هذه الأمور أو يشعر بها. لا فى بداية علاقتهما ولا فى نهايتها. لم يكن مُحتملًا بالنسبة له أن يقف هذا الموقف. فهو فى مكان آخر طوال حياته، بين هنا وهناك، لكنه لم يكن هنا حقَّا، ولم يكن هناك أيضًا.
من كتاب «اختراع العزلة»