رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استلطاف

جريدة الدستور




تشبه مصحة فى عمق الصحراء، أو سجنًا قديمًا مهجورًا.. هكذا قال موسى لنفسه وهو يعبر بوابتها الحديدية، ويتجه نحو القسم المنتدب إليه: «شئون الإنتاج».
تساءل المدير فى حيرة: «مهندس فى كفاءتك.. لماذا؟»، رد موسى: «يمكنك أن تسأل الشئون القانونية»، ابتسم المدير فى عطف: «لن أسأل يا بنى، اختر لك مكتبًا، لا أحد هنا سوانا».

أطلت برأسها دون أن تطرق الباب: «المهندس موسى وصل!» منعه الشرود من إظهار دهشته، دفعت الباب ودخلت متجهة نحوه، ظل جالسًا كأنه لم يرها، رغم وقوفها أمام المكتب.. سحبت كرسيًا وجلست: «كنت عند رئيس الشركة وعرفت أنك وصلت» لم يرد فأكملت، وهى تحرك يدها اليمنى كمروحة: «الجو هنا حر جدًا، سأوفر لك مروحة غدًا، ويمكن أن أحضر تكييفًا لو أحببت»، رد فى برود: «هذا مكان لا يصح أن يدخله أحد غير العاملين فيه، ألم تقرأى التعليمات على الباب؟»، فى شراسة مكتومة ردت: «يمكن ألا تدخله أيضًا.. ألم تعرف حجمك بعد؟»، ابتسم وهو يشبك أصابعه أمام وجهه، فأكملت: «فكر، لماذا تحرم أسرتك من حقوقها.. الكل معنا»؟!

«مَن هذه؟» سأل المدير بعد خروجها، فرد موسى: «سبب نقلى».
- موظفة معكم؟
- لا
- مجلس إدارة أو متابعة؟
- لا..

لمحها تقف أمام بوابة الخروج، فتحرك مبتعدًا بسرعة، دقائق ووجد سيارتها تسير بجواره، وهى تطل من الشباك: «اركب.. الجو حر».
...
تحدثت عن الظروف والأحداث التى يمر بها البلد، ارتفاع الأسعار، وتساءلت: كيف يعيش مهندس مثلك بمرتبه الحكومى فقط؟ استمع دون رد، أخبرته أن لديها أصدقاء فى كل مكان، وأنه يمكن أن يعود إلى مصنعه أو إلى مصنع أفضل منه بدلًا من البقاء فى هذا «السجن» أو الذهاب إلى مكان أسوأ، وبصوت حاول أن يكون حياديًّا سألها: «ما أخبار سليم؟».
- نصف العمى.. روتينى لكنه أفضل من سابقيه.
- لماذا لا ترسل الشركات الأخرى مندوبين مثل شركتكم؟
- أقوم بذلك بدلًا عنهم، وهم يقدرون ذلك جيدًا.. ألن تقدر أنت أيضًا؟ قالتها وهى تشغل مذياع السيارة، فانطلق صوت منير: «لا زاد ولا مية» سارعت بتغيير المحطة، فقال فى عفوية: «هل هناك من يُغير على منير؟»، ابتسمت: «هل هناك من يسمع منير؟ حضرتك قديم جدًا.. لكن سأعود إلى الأغنية.. ولو أردت منير نفسه فسأحضره لك».
- شكرًا.. سأنزل هنا؟
- أعرف سكنك، وسأوصلك لأقرب نقطة.
- ماذا تريدين؟
- أنت تعرف.
- سأنزل.

عليه أن يراجع موقفه، تم تحويله للتحقيق بتهمة تافهة، وحين بدأ التحقيق انتدب إلى مقر الشركة الرئيسى ما يفقده نصف أجره الذى يكفى أسرته بأعجوبة، وتسلم مكانه أحد أعوان مدير المصنع، مع حركة دءوبة لاختراع تهم جديدة.

قطع كوبرى قصر النيل متجهًا لميدان التحرير، شم الهواء بعمق حين وصل أمام مسجد عمر مكرم، ابتسم حين رأى مجمع المصالح، وتذكر دخوله لإنهاء إجراءات سفره.. أكمل فى شارع التحرير حتى وصل إلى باب اللوق، انحرف يمينًا، وجلس على مقهى قديم.. منتظرًا صديقه المحامى.
«يمكن أن ننسف كل هذا بضربة واحدة»، قالها المحامى بثقة وهو ينفث دخان سيجارته، لكن موسى رد: «سأبقى».
- لماذا؟
- إن عدت للمصنع الآن فيمكن تلفيق أى تهمة لى.. الورق ورقهم.. والعمال والمهندسون فى وضع صعب جدًا.

وقف مدير القسم مرتعدًا حين دخل رئيس الشركة الذى نادى: «مهندس موسى»، نظر إليه موسى: «تحت أمرك».
- لماذا أغضبت رؤساءك؟
- هل هذه تهمة جديدة؟
- لقد تركت مشاغلى من أجلك.. وأعاملك كابن.. تكلم بشكل أحسن.
- هل زارتك أستاذة حسناء؟

«كل هذه الحرب لأن رجلًا أحب امراة لم تحبه»، فى سيره إلى محطة الأتوبيس تذكر هذه الجملة التى نطق بها بطل فى مسلسل صراع العروش، وطفت على وجهه ابتسامة حين تذكر حسناء، وقال لنفسه: «كل هذه الكوارث لأن مديرًا قال لحسناء: ما أخبار الاستلطاف؟».

«أريد منك خمس دقائق، وبعدها ستبدأ التحقيق الذى لن ينتهى»، قالها موسى للمحقق الذى هز رأسه موافقًا: «أدار المصنع عمرو السيد قبل سليم لسنوات كثيرة، لكن فجأة انقلبت الدنيا عليه، واتهم بالرشوة والتبديد والفساد، وتم نقله، ورغم عدم ثبوت التهم، فلم يعد واستمر سليم رغم فشله وتراجع إنتاج المصنع، وانتقال معظم الكفاءات، وسيستمر للسبب الذى أبعد من أجله المدير السابق»، كانت عينا المحقق تنطقان باللهفة، فأكمل موسى: «تقوم حسناء بتخليص المنتجات لشركتها ولكل الشركات، ويساعدها رجل، ويفيد هذا جميع الأطراف فالشركات لن تحتاج إلى موظف، والمصنع سيتعامل مع شخصين فقط، ويبدو أن كثرة العمل عمقت العلاقة بين حسناء وحامد، لكن طمع حسناء فى عمولات أكثر ومحاولتها التدخل فى صفقات المواد الخام، دفعا المدير السابق للتصدى لها، وحين ضغطت عليه ببعض عيوب إدارته، قائلة: (سمعت أنك استأجرت شقة فى عين شمس على حساب المصنع)، قال لها: (سمعت أيضًا أن هناك استلطافًا بين أعضاء الشركات)».
هز المحقق كتفه: «وما علاقتك بهذا؟».
- مع مجىء سليم، انطلقت حسناء فى مخططها بتقسيم المصنع إلى قسمين، عصابة عمرو التى تريد إسقاط المصنع، ومجموعة المخلصين وهم من ينفذون كلامها، وحين رفضت الموافقة على خامات- حاولت هى الضغط لقبولها- غير مطابقة، وضعتنى فى أول القائمة السوداء.. وقام المدير بكل ما استطاع ضدى، واتصلت هى بكل العملاء تقريبًا ليرفضوا أى منتج يخرج من قسمى، مع فتح باب للتفاوض دائمًا.
- ولماذا لم تتفاوض؟
- لا أعرف.
- ...

أعطته زوجته المحمول الذى يظهر على شاشته رقم دون اسم، جاءه صوتها: «حمدى باشا غاضب منك، لكننى قلت له إنك طيب ويمكن إنهاء المسألة»، رد كمدفع: «بالاستلطاف»، لم يأته رد فأدرك أن الطلقة أصابت المقتل، بعد دقيقة قال بصرامة: «انسى اسمى تمامًا.. وصلك أن فاعل خير سلمنى مستندات تضر بموقفك.. لكن وصلنى معها ما هو أبشع».

فى الصباح وجد استدعاء من رئيس الشركة، فصعد.. تحرك مدير المكتب ليفتح له الباب، جلس دون أن يلقى التحية، تحدث الرئيس: «قرار ندبك ثقيل علينا فأنت من الكفاءات المعدودة.. لدينا مصنع جديد بكل المميزات...»، قاطعه موسى: «سأعود لجهة عملى الأصلية بعد انتهاء التحقيق.. حتى لو بعد عشر سنوات.. والمحامى يجهز إجراءات الطعن ورفع القضية على صاحب القرار»، كأن رئيسه كان يتوقع، فردّ بعطف مصطنع: «كما تشاء يا بنى».

انتقلت أنا المحقق هادى على من الشئون القانونية إلى مستشفى التأمين الصحى لسماع أقوال المهندس موسى نور فى واقعة صعقه بماس كهربائى أثناء وجوده فى المقر خارج وقت عمله، ولم أستطع أخذ أقواله لحرج حالته الصحية.