رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثم صارت الخيانة وجهة نظر!



حرب لا متماثلة تشنها ضدنا جماعة إرهابية مدعومة من عدة دول، تشهد وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعى الجانب الأكبر منها، ويجرى فيها استخدام عملاء جرى استئجارهم، أو بلهاء تم استغلال سذاجتهم، غبائهم أو جهلهم.
الحرب اللا متماثلة والإرهاب الدولى ليسا جديدين، إلا أن الأوضاع الجيوسياسية الحالية والتطورات التكنولوجية الهائلة، أكسبتهما أهمية استثنائية فى العقد الأخير، تحديدًا منذ سنة ٢٠١١، التى شهدت تزايد وتيرة تطور صناعة الأكاذيب، التى لم تعد مجرد شائعات تقوم جهات، كيانات، أو أجهزة بزراعتها فى وسيلة إعلام أو اثنتين أو حتى عشر. بل تحولت إلى صناعة كاملة، وقامت غالبية الدول، وفقًا لأحجامها وقدراتها، بتجنيد آلاف الخبراء ليقوموا برد الفعل والفعل معًا: مقاومة الأكاذيب وصناعة أخرى مضادة. وتحقيقًا للهدف نفسه، ظهرت عدة كيانات تعمل تحت ستار تقديم المساعدات الإنسانية، والعون التنموى، وأعمال الإغاثة.
التاريخ ملىء بآلاف الأمثلة على حروب إعلامية ساخنة جدًا، شنتها أجهزة مخابرات دول طوال نصف القرن الماضى، وتنافست فيما بينها فى ابتداع أشكال مختلفة من الأكاذيب وحملات التضليل. غير أن الوتيرة المتسارعة لتطور صناعة الأكاذيب وغيرها من أسلحة الحرب اللا متماثلة، رافقتها تطورات مذهلة فى توظيف المصطلحات، التى جرى تطويرها أو استحداثها، فى محاولة لإذابة الفارق بين العدو الخارجى والعدو المواطن، أو لتبرير عمالة الثانى لحساب الأول أو استقوائه به، أو تجميل الخيانة بجعلها وجهة نظر، قابلة للأخذ والرد.
هكذا، لم تعد غالبية الحروب، وتحديدًا تلك التى شهدتها منطقة الشرق الأوسط، مقصورة على العمل العسكرى التقليدى، وصار العدو فى كثير منها مجهولًا، فى وجود تنظيمات أو كيانات يصعب ربطها بالدول التى تحركها، أو تستعملها. وعلى سبيل التحايل، أو تبريرًا لعدة جرائم، ظهر مصطلح «الجريمة السياسية»، وأسىء استخدامه وتوسيع نطاقه، ليشمل الجرائم العادية، كالقتل والسرقة، وغيرها لو كان لها دافع سياسى. وهذا طبعًا كلام فارغ، لأن معناه أن المعيار هنا أساسه النية، التى لا يعرفها غير الله، ولا تصلح لأن تكون ركنًا من أركان الجريمة أو دليل إدانة ضد مرتكبها، وبالتالى فإنها لا تصلح معيارًا لتمييز الجرائم.
المصطلحات هى مفاتيح العلوم، وتوصف أحيانًا بأنها من مبادئ العلم وأصوله. وقيل أيضًا إن فهم المصطلحات هو نصف العلم، لأن المصطلح يعبر عن مفهوم، والمعرفة مجموعة من المفاهيم التى يرتبط بعضها ببعض فى شكل منظومة. وبالتالى، يكون من يُنتج المصطلح هو بالضرورة من ينتج المعرفة والعكس. ويمكنك أن تقيس التطور والرقى المعرفى بدرجة دقة المصطلح واتفاقه مع المضمون الذى يختزله ويدل عليه: كلما اتسع الفارق بين المصطلح والمضمون الدال عليه تدنّى المستوى المعرفى أو زادت درجة الجهل والتخلف. وتكون المصيبة سوداء، لو كان من ينتج المصطلح فاقدًا للمعرفة. وطبعًا، ستكون أكثر سوادًا، أو حالكة السواد، لو تم توظيف الاثنين، المعرفة والمصطلح، لتبرير جريمة أو لتجميل سلوك إجرامى.
وضعًا للنقاط المرتبكة على الحروف الأكثر ارتباكًا، نشير إلى أن الجريمة السياسية هى «الجرائم الموجهة ضدّ نظام الدولة السياسى وضد سير أجهزتها وضد حقوق المواطنين»، حسب تعريف المؤتمر الدولى السادس لتوحيد القوانين الجنائية. غير أنه، وربما على سبيل التحايل أيضًا، أو تجميلًا لسلوكيات إجرامية عديدة، أبرزها الإرهاب، ظهرت ما توصف بـ«الجريمة السياسية النسبية» لوصف الجريمة العادية المرتبطة بجريمة سياسية، بغض النظر عن صيغة الارتباط، مادية كانت أو معنوية أو حتى صورية. وبالتالى تم استغلال هذا اللبس فى التعمية على الإرهاب، وعلى جريمة التخابر مع دولة أجنبية، وغيرها من الجرائم التى تعد خيانة عُظمى.
بهذا الشكل، عُمنا طويلًا، ولا نزال، فى مستنقع الأكاذيب، التى أطلقتها وتطلقها جهات معادية، واستخدمت فى ترويجها وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية. ولم يعد ذلك سرًا أو اتهامًا مرسلًا يطلقه من أكلت «نظرية المؤامرة» أدمغتهم، بعد أن دقت على رءوسنا طبول كثيرة. وبعد ظهور مئات، بل آلاف، الوثائق، المقروءة والمسموعة والمرئية التى كشفت عن تلقى مشاهير لمكافآت منتظمة من تلك الجهات المعادية سواء بشكل مباشر أو عبر واجهات مختلفة: قنوات تليفزيونية، صحف، مواقع إلكترونية، جوائز، دور نشر، و... و.... إلخ.
أخيرًا، وبعد أن صار التمييز صعبًا بين العدو الخارجى والعدو المواطن. وبعد أن صارت الخيانة وجهة نظر، قابلة للأخذ والرد، رأينا شواذ وطنيًا أو سياسيًا، لو أردت مجاملتهم، لا يخجلون من الإعلان عن تعاونهم مع أعداء الخارج أو الاستقواء بهم، بزعم أنهم يعارضون نظام الدولة السياسى. بالضبط، كما تفعل تلك النفايات المنتمية إلى جماعة الإخوان أو المركوبة منها، التى سيتم، اليوم، شد «السيفون» على ما تبقى منها.