رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإعلام المتنامي.. وعالم فوق صفيح ساخن


أوقعنا اللغويون في مأزق المصطلحات اللفظية المستحدثة؛ والتي ـ في رأيي ـ لا تزيد على كونها تفسير الماء بالماء! وأدخلونا في نفق محاولات إيجاد تحليل مطوَّل لكل لفظ يُستحدث على صعيد اللغة، وربما جذبتنا تلك المحاولات إلى مسارب جانبية؛ شغلتنا عن الهدف المراد الوصول إليه، فاستمعنا إلى عبارات "التنمية المستدامة" و"الإعلام المتنامي"... إلخ! وكلها بمثابة "متبلات" لهضم الوجبة الإعلامية المقدمة؛ ولتشجيع المتلقي على التواصل والاسترسال في متابعة الأحداث واستقائها أولا بأول وقت حدوثها؛ حتى في أقاصي الكرة الأرضية.
فالعالم اليوم أصبح كـ "القنينة الزجاجية" الشفافة التي تغلي فوق صفيح ساخن من نيران الأحداث المتسارعة والمتشابكة، وبات من السهل لكل عينٍ وأذن مدربة فاحصة؛ أن تلتقط حركة كل الفقاعات المتفاعلة داخلها، فقد تفوقت التقنيات التكنولوجية على نفسها، وتحوَّل العالم إلى قرية صغيرة لا ينفع بين أهلها استخدام أساليب المداراة والمواربة؛ ليسري "الخبر" كما تسري النار في الهشيم، أو كما يقال في المجتمع المصري ـ على سبيل الفكاهة ـ خاصة في المناطق الآهلة بالسكان: إذا أردت انتشار موضوع ـ ولو على سبيل الشائعة ـ ما عليك إلا أن تهمس به في أذن (س) من الناس، وسيدور الخبر دورته لينتهي إليك في غضون دقائق، وتستمع إليه وأنت تضع على وجهك قناعًا يحمل كل تعابير الدهشة وإزجاء الشكر لمن منحك هذه الخصوصية وائتمنك على هذا السر الذي أنت صانعه!
 
ولكن في عالمنا اليوم؛ فقد أصبح مقياس الزمن في نقل المعلومة "صفر" على الشمال؛ أو واحد على مليون من "فيمتو ثانية زويل"، وهذا يدفع بكل الأحداث التي تقع داخل أي مجتمع من المجتمعات؛ وكذا جذب الأحداث العالمية الموَّارة إلى بؤرة الاهتمام المحلي، ويستوي في هذا كل التفاعلات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وعن الأحداث السياسية المرتبطة بالاقتصاد حدِّث ولا حرج، فهي المقصودة أولاً وأخيرًا؛ وهي الهدف الأسمى من آلة الإعلام الجهنمية الشيطانية، التي اخترعها الغرب لزيادة أوجاع أهل الشرق والعالم الثالث؛ الذين يعنيهم "الرغيف" في المقام الأول؛ ويبحثون عنه فيما وراء السطور لـ "مانشيتات" الصحافة وبرامج التليفزيون!
 
من هذا المنطلق ـ ربما ـ جاء تعبير"الإعلام المتنامي"؛ وهو الذي يقوم بتغطية وتصوير الحدث من كل الزوايا، ويرصد التأثير المتنامي والمتصاعد وانعكاساته في عقول وأذهان كل الأطياف المعنية بأمر هذا الحدث، حبذا لو كان هذا الرصد والتحليل والتقييم صادرًا من قبل الجهات السيادية للدولة وصاحبة القرار في إصداره، لأن تلك الجهات السيادية هي التي تنعم بكل الثقة والمصداقية من جموع الشعب، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار بأحقيتها في الاحتفاظ ببعض ما يخص الأسرار العسكرية للدولة، واعترافنا ـ من أجل المصلحة العليا للبلاد ـ بأنه: ليس كل ما يُعرف يقال! فأحيانًا يكون "البوح" بالمعرفة الكاملة "قاتلا" لمن يدركها.
 
وفي هذا الصدد ــ والقياس مع الفارق طبعًا ـ يحكى أنه كان هناك ثلاثة أشخاص محكوم عليهم بالإعدام: رجل دين/محام/عالم فيزيائي، وقبل لحظة تنفيذ الحكم تم توجيه هذا السؤال لكل منهم: ماذا تتمنى قبل تنفيذ حكم الإعدام؟ فكانت إجابة رجل الدين: أثق بالله وسينجيني! وبالفعل نزلت المقصلة إلى ما قبل عنقه وتوقفت.. فتم العفو عنه! وكانت إجابة المحامي: أنا محام وأثق بالعدالة وستنجيني! وللمرة الثانية نزلت المقصلة إلى ما قبل عنقه ولم تفصله.. فتم العفو عنه! وجاءت إجابة العالم الفيزيائي مدهشة؛ فقد قال: هذه المقصلة لن تفصل عنقي لأن حبلها به "عُقدة" ستمنع الوصول لفصل عنقي!! وبالفعل اكتشفوا "عُقدة" بحبل المقصلة تمنعها من القيام بمهامها كما يجب، وتم حل المشكلة، وتم تنفيذ الحكم بالإعدام في أكثرهم معرفة.
لذا يجب الصمت عن بعض الحقائق التي قد تضر بمصالح الدولة العليا وأسرارها الإستراتيجية، طالما كان الإيمان بالوطن وبالقيادة الوطنية قويًا وراسخًا في قلوب الجميع.
 
وعلى هذا الأساس نرى أن العمل السياسي والعمل الإعلامي يشكلان مجالين متميزين، ولا يمكن الفصل بين هذين النشاطين؛ لأن وظيفة الإعلام هي القيام بعملية إبلاغ المعلومة الحقيقية لضمان انخراط المواطنين في خضم الحياة السياسية، ومحاولة التوفيق بين القوى الموالية وتشكيلات المعارضة، باستمرارية الحوار الدائم داخل كل طوائف المجتمعات على اختلاف توجهاتها ومقاصدها، لتحقيق الانصهار الكامل في بوتقة الدولة واتجاهاتها الوطنية، للوصول إلى دعم الحوار الديمقراطي وتنمية الوعي بالحقوق الإنسانية داخل المجتمع، ولن يتأتى ذلك إلا بزيادة مساحة "الإعلام" حتى يكون "متناميًا " بالمعنى الحقيقي؛ بإعداد برامج استطلاع الرأي بين الجماهير واستخلاص النتائج على يد المتخصصين، لإمكانية وضع الحلول لمختلف المشكلات والإشكاليات الاجتماعية قبل تفاقمها وصعوبة الوصول إلى حلول جذرية لها، وحتى لا نترك نهبًا لإعلام مُغرض "متناوم" متغافل عن الخوض الصادق في تحليل كل ما يدور حولنا من متغيرات.
 
هذا هو الدور الحقيقي لما يجب أن يقوم به "الإعلام" الرسمي، وضرورة انصياع الإعلام الخاص بمواثيق الشرف الإعلامية واجبة الاحترام، وحتى لا تكون كل إذاعة أو قناة تليفزيونية جزيرة منعزلة، ونرى كلٌ في فلكٍ يسبحون!
 
وحين يتحقق هذا التجانس الرائع في الإعلام، لن يكون اهتمامنا بالمُسمَّى اللغوي له، ويكون جُل اهتمامنا بتعضيده وتقويته، وترك مؤشرات أجهزتنا على القنوات الرسمية للدولة؛ لثقتنا بأنها لن تعمل إلا لمصلحة الوطن ومستقبله المشرق.